ما أحدثكم عنه الآن ليس ضربًا من خيال، ولا تَقوُّل بغير شاهد ولا بيان، بل هي حقيقة ناصعة بطلها صاحب سمت فذ وسيرة عطرة، فاح أريجها لما عظم حرمات ربه، فرفع الله بذلك قدره، إنه بن سيرين رحمه الله فاسمع إليه يقول: (ما أتيت امرأة في نوم ولا يقظة، إلا أم عبد الله [يعني زوجته]، وقال: إني أرى المرأة في المنام، فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها) [تاريخ دمشق، ابن عساكر، (35/205)].
ومن خلف أستار تعظيم الحرمات يطل علي بن الحسن، صاحب الوضوء الباهر الحسن الذي (كان إذا توضأ يصفر فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/194)].
تعظيم الحرمات
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن يا شباب ـ والذي ربما استشف بعضكم إجابته من المقدمة ـ ما الذي بلغ بهؤلاء ـ وغيرهم الكثير ـ هذا المبلغ من الخشية والإخبات؟
والجواب ليس بالأمر الصعب والطريق الموصل إليه ليس بمستحيل المنال، لكنه يسير بإذن الله على من يسره الله عليه، تجدون الإجابة في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل في علاه، ألا وهي: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
إن المؤمن الحق هو الذي يعظم حرمات الله ويستشعر هيبته ويذعن لجلاله، ويقدِّر غيرته تعالى على حرماته، يقول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) [متفق عليه].
قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: (ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و[اجتناب] المحظورات) [تفسير ابن كثير، ابن كثير، (5/419)].
إنه ذلك التعظيم لحرمات الله الذي سكن قلوبهم فطهرت وأرواحهم فارتفعت (وتعظيم الله تعالى يقتضي تعظيم حرماته، وهي كل ما يجب احترامه وحفظه وصيانته ورعايته، وتشمل جميع ما أوصى الله بتعظيمه وأمر بأدائه، وتعظيم حرماته هو العلم بوجوبها والإقرار بها والقيام بحقوقها).
جدد إيمانك
وعند هذا العنوان نتوقف ونسأل، أليس كل منا يا شباب يبحث عن علو الإيمان؟ أليس كل منا يشكو ذنوبًا أرقته ويبحث عن العلاج؟ بلا شك كلنا ذلك الرجل وهذا الشاب، ولذا فإن الحل الناجح صاحب التأثير الفعال هنا في هذه الجرعة من الدواء، فمن الأمور المجددة للإيمان في القلب: (تعظيم حرمات الله)، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ومن تعظيم هذه الحرمات أن يقوم الإنسان بما أمره به ربه، وأن يجتنب ما حرمه الله تعالى، ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يجعل بيننا وبين الذنوب سدًا منيعًا فحذرنا قائلًا: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (389)]، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلًا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا فأججوا نارًا وأنضجوا ما قذفوا فيها.
طريق الوصول
لاشك أننا نعلم أن خطر انتهاك حرمات الله كبير، كما علمنا ابن عباس رضي الله عنهما يوم أن قال: (يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته: قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته) [الجواب الكافي، ابن القيم، (1/33)].
ومن ثم فإن الطريق الموصلة إلى أن يبلغ العبد هذه المنزلة، أي أن يكون معظمًا لحرمات الله؛ هي أن يقدر الله حق قدره ويتعرف على عظمته وآيات قدرته، ثم يسلك ضرب التقوى وينظر في سمات المتقين فهم أعظم الناس تعظيمًا لحرمات الله جل وعلا، وإليك هذا التفصيل من بعد إجمال:
طريق التقوى:
إنه باختصار الطريق الذي ينبغي عليك أن تسلكه إذا رمت شرف تلك المنزلة التي نتحدث عنها، فلاريب أنك إن أردت أن تكون من بين عباد الله المخلصين الذين يعظمون حرماته، فإن الطريق ليس السهل اليسير المفروش بالورود والرياحين؛ بل إن الطريق فيه طاعات وفروض ربما تسول النفس للشاب تركها خاصة مع انشغالات الحياة الدنيا، فضلًا عن رفقة سوء تزين له كل سوء، ومن جانب آخر هناك معاصي وشهوات تزين وتبرق تريد أن تملأ أعين الشباب فتغريهم كي يسيروا في ركابها كما قال ربنا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20].
ومن ثم لابد من صبر ومصابرة وجد واجتهاد، صبر عن المعصية وعن الشهوات، وجد في الطاعات واجتهاد، كما كان مذهب أبي هريرة حينما سُئل يومًا عن التقوى فرد على سائله وأجاب: (هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى) [جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص(173)]، فهيا أيها الحبيب بادر بالتقوى وافتح أذنك لناصحك المترنم يسقيك جرعته الأولى من الدواء:
خل الذنـوب صغيرها وكبيرها ذاك التقـى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيـرة إن الجبـال من الحصـى
وما قدروا الله حق قدره:
وهنا لنا وقفة مع الجرعة الثانية من الدواء، تأتيك في آي الكتاب، حينما قال الملك الوهاب سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وهذا أعظم ما يحول بين العبد وبين تعظيمه لحرمات ربه سبحانه وتعالى، ويجلعه مندفعًا في العصيان، معرضًا عن الإيمان، ولو أن قدر الله سكن قلبه واستقر أمامه لما وجد غير تعظيم حرمات الملك القدير سبيلًا.
ومن ثم فإن الجرعة الثانية من الدواء، ترسم لك معرفة الله تبارك وتعالى بابًا تلج منه لتعظيم الرب جل وعلا (فإذا قدر العبد ربه حق قدره؛ فإنه يعلم عظيم حق الله تعالى عليه، فيدفعه ذلك إلى استفراغ وسعة في طاعة ربه، وهو يعلم أنه مهما فعل، فلن يوفي ربه ذرة من حقه، وأما حين يضعف تعظيم الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، وحين لا يقدر العبد ربه حق قدره، فإنه لابد أن يقع في التفريط والتقصير في جنب الله، والإسراف على نفسه بالذنوب والآثام؛ فيقوده ذلك ولابد إلى الإعراض عن الاستعداد لليوم الذي لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا.
من أجل ذلك كان لابد للعبد أن يعرف عظمة ربه، وأن يستشعر الهيبة من الخالق الجليل، حتى يعيش في الدنيا على مراد ربه منه، لا على مراد نفسه وهواها) [وما قدروا الله حق قدره، فريد مناع، ص(5-6)].
ولهذا كان دائمًا ما يرفع بلال بن سعد رحمه الله تعالى شعار: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، ص(1/466)].
السلام والسكينة
حينما يربي الشاب نفسه على التقوى وعلى تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى، فإنه يتولد لديه رقابة داخلية ذاتية، لا يمكن أن تضاهيها أي رقابة لا حكومية ولا قانونية، فتنشأ أيها الحبيب ومقياس الخطأ والصواب عندك يخضع لترموتر الرقابة الداخلية التي استقيتها من تعظيمك لحرمات الله جل وعلا، وبهذا تجدك على درجة عالية من الاتساق النفسي إذ أنه مع تلك الشهوات التي تعرض على الشباب ليل نهار من جانب ومع بعد كثير من الشباب عن طاعة ربهم وتعظيم حرماته من جانب آخر؛ يظل الشاب متربصًا أي فرصة يشعر فيها أنه يستطيع أن يتسور جدار المعصية دون أن يراه أحد أو يشعر إنسان فيفعلها.
وهكذا ينشأ ذلك الشاب في مجال عمله مثلًا متربصًا غياب الأعين عن متابعته، فيتسور جدار الإتقان والتفاني في العمل لأنه يعلم أنه لن يحاسب لأنه غير مراقب، وهذا الشخص لاشك تشعر فيه باضطرابًا نفسيًا كبيرًا.
أما شباب التقوى الذين سكنت قلوبهم منزلة تعظيم ربهم، فإنهم أنأى الناس عن ذلك حين أن مراقبة ربهم ولزومهم تقواه علمهم أن أعين الناس ليست هي من تراقبهم، وأن إرضاءهم ليس هو الأساس، ومن ثم تجد هؤلاء في قمة الاستقرار النفسي حيث أن السلام السكينة تسكن قلوبهم وعقولهم.
مسئولية جسيمة
إن استشعار الآباء لمسئوليتهم الجسيمة بين يدي الله تبارك وتعالى لا تفارقهم أبدًا، ولما لا وقد قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وإن من أعظم المسئوليات أن يربوا فيهم تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى، وتغرس هذه القضية في قلوب الشباب من خلال:
أولًا: أن يرى الأبناء آباءهم قدوة حقيقية من خلال تقديمهم على أمر الله سبحانه وتعالى في شتى أمور حياتهم، والتوقف عند ما حرمه الله تعالى ونهى عنه، وينبغي أن يرى الشباب قضية تعظيم حرمات الله تبارك وتعالى صورة حية في مواقف حياتية تمر بالآباء الفضلاء والأمهات الفضليات.
ثانيًا: أن يجعل يعود الآباء أبناءهم في القضايا المختلفة على أنهم يستندون إلى أمر الله عز وجل، فيقولون مثلًا: (مهلًا يا بني حتى نرى هذا الأمر حلالًا أمر حرامًا، يا بني هذا الأمر لا يجوز وبالتالي لا يمكن أن أقدم عليه، يا بني من ترك شيئًا لله عوضه الله خير منه، يا بنيتي أن سأساعدك في هذا الأمر بكل قوتي لأنه يرضي الله... إلخ).
في الختام
كي تبدأ رحلتك في تحقيق التقوى، أعد ورقة وكتب في أحد شقيها المعاصي التي ترتكبها وعاهد ربك أن تقلع عنها، واكتب الطاعات والفرائض المقصر في آدائها وبدأ في المواظبة عليها.
وكي تقدر ربك حق قدره، ويسكن قلبك قدره وعظمته، أبدأ رحلتك التي تهدف من ورائها للتعرف أكثر على خالقك ومولاك سبحانه وتعالى، فطالع مثلًا كتاب (العظمة في كل مكان) للدكتور هارون يحيى، استمع للشرائط التي تتكلم في قضية التدبر والتأمل كشريط (دعوة للتأمل) للشيخ على القرني.
المصادر:
صفة الصفوة ابن الجوزي.
الجواب الكافي ابن القيم.
وما قدروا الله حق قدره فريد مناع.
ومن خلف أستار تعظيم الحرمات يطل علي بن الحسن، صاحب الوضوء الباهر الحسن الذي (كان إذا توضأ يصفر فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/194)].
تعظيم الحرمات
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن يا شباب ـ والذي ربما استشف بعضكم إجابته من المقدمة ـ ما الذي بلغ بهؤلاء ـ وغيرهم الكثير ـ هذا المبلغ من الخشية والإخبات؟
والجواب ليس بالأمر الصعب والطريق الموصل إليه ليس بمستحيل المنال، لكنه يسير بإذن الله على من يسره الله عليه، تجدون الإجابة في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل في علاه، ألا وهي: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
إن المؤمن الحق هو الذي يعظم حرمات الله ويستشعر هيبته ويذعن لجلاله، ويقدِّر غيرته تعالى على حرماته، يقول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) [متفق عليه].
قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: (ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و[اجتناب] المحظورات) [تفسير ابن كثير، ابن كثير، (5/419)].
إنه ذلك التعظيم لحرمات الله الذي سكن قلوبهم فطهرت وأرواحهم فارتفعت (وتعظيم الله تعالى يقتضي تعظيم حرماته، وهي كل ما يجب احترامه وحفظه وصيانته ورعايته، وتشمل جميع ما أوصى الله بتعظيمه وأمر بأدائه، وتعظيم حرماته هو العلم بوجوبها والإقرار بها والقيام بحقوقها).
جدد إيمانك
وعند هذا العنوان نتوقف ونسأل، أليس كل منا يا شباب يبحث عن علو الإيمان؟ أليس كل منا يشكو ذنوبًا أرقته ويبحث عن العلاج؟ بلا شك كلنا ذلك الرجل وهذا الشاب، ولذا فإن الحل الناجح صاحب التأثير الفعال هنا في هذه الجرعة من الدواء، فمن الأمور المجددة للإيمان في القلب: (تعظيم حرمات الله)، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ومن تعظيم هذه الحرمات أن يقوم الإنسان بما أمره به ربه، وأن يجتنب ما حرمه الله تعالى، ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يجعل بيننا وبين الذنوب سدًا منيعًا فحذرنا قائلًا: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (389)]، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلًا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا فأججوا نارًا وأنضجوا ما قذفوا فيها.
طريق الوصول
لاشك أننا نعلم أن خطر انتهاك حرمات الله كبير، كما علمنا ابن عباس رضي الله عنهما يوم أن قال: (يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته: قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته) [الجواب الكافي، ابن القيم، (1/33)].
ومن ثم فإن الطريق الموصلة إلى أن يبلغ العبد هذه المنزلة، أي أن يكون معظمًا لحرمات الله؛ هي أن يقدر الله حق قدره ويتعرف على عظمته وآيات قدرته، ثم يسلك ضرب التقوى وينظر في سمات المتقين فهم أعظم الناس تعظيمًا لحرمات الله جل وعلا، وإليك هذا التفصيل من بعد إجمال:
طريق التقوى:
إنه باختصار الطريق الذي ينبغي عليك أن تسلكه إذا رمت شرف تلك المنزلة التي نتحدث عنها، فلاريب أنك إن أردت أن تكون من بين عباد الله المخلصين الذين يعظمون حرماته، فإن الطريق ليس السهل اليسير المفروش بالورود والرياحين؛ بل إن الطريق فيه طاعات وفروض ربما تسول النفس للشاب تركها خاصة مع انشغالات الحياة الدنيا، فضلًا عن رفقة سوء تزين له كل سوء، ومن جانب آخر هناك معاصي وشهوات تزين وتبرق تريد أن تملأ أعين الشباب فتغريهم كي يسيروا في ركابها كما قال ربنا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20].
ومن ثم لابد من صبر ومصابرة وجد واجتهاد، صبر عن المعصية وعن الشهوات، وجد في الطاعات واجتهاد، كما كان مذهب أبي هريرة حينما سُئل يومًا عن التقوى فرد على سائله وأجاب: (هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى) [جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص(173)]، فهيا أيها الحبيب بادر بالتقوى وافتح أذنك لناصحك المترنم يسقيك جرعته الأولى من الدواء:
خل الذنـوب صغيرها وكبيرها ذاك التقـى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيـرة إن الجبـال من الحصـى
وما قدروا الله حق قدره:
وهنا لنا وقفة مع الجرعة الثانية من الدواء، تأتيك في آي الكتاب، حينما قال الملك الوهاب سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وهذا أعظم ما يحول بين العبد وبين تعظيمه لحرمات ربه سبحانه وتعالى، ويجلعه مندفعًا في العصيان، معرضًا عن الإيمان، ولو أن قدر الله سكن قلبه واستقر أمامه لما وجد غير تعظيم حرمات الملك القدير سبيلًا.
ومن ثم فإن الجرعة الثانية من الدواء، ترسم لك معرفة الله تبارك وتعالى بابًا تلج منه لتعظيم الرب جل وعلا (فإذا قدر العبد ربه حق قدره؛ فإنه يعلم عظيم حق الله تعالى عليه، فيدفعه ذلك إلى استفراغ وسعة في طاعة ربه، وهو يعلم أنه مهما فعل، فلن يوفي ربه ذرة من حقه، وأما حين يضعف تعظيم الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، وحين لا يقدر العبد ربه حق قدره، فإنه لابد أن يقع في التفريط والتقصير في جنب الله، والإسراف على نفسه بالذنوب والآثام؛ فيقوده ذلك ولابد إلى الإعراض عن الاستعداد لليوم الذي لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا.
من أجل ذلك كان لابد للعبد أن يعرف عظمة ربه، وأن يستشعر الهيبة من الخالق الجليل، حتى يعيش في الدنيا على مراد ربه منه، لا على مراد نفسه وهواها) [وما قدروا الله حق قدره، فريد مناع، ص(5-6)].
ولهذا كان دائمًا ما يرفع بلال بن سعد رحمه الله تعالى شعار: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، ص(1/466)].
السلام والسكينة
حينما يربي الشاب نفسه على التقوى وعلى تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى، فإنه يتولد لديه رقابة داخلية ذاتية، لا يمكن أن تضاهيها أي رقابة لا حكومية ولا قانونية، فتنشأ أيها الحبيب ومقياس الخطأ والصواب عندك يخضع لترموتر الرقابة الداخلية التي استقيتها من تعظيمك لحرمات الله جل وعلا، وبهذا تجدك على درجة عالية من الاتساق النفسي إذ أنه مع تلك الشهوات التي تعرض على الشباب ليل نهار من جانب ومع بعد كثير من الشباب عن طاعة ربهم وتعظيم حرماته من جانب آخر؛ يظل الشاب متربصًا أي فرصة يشعر فيها أنه يستطيع أن يتسور جدار المعصية دون أن يراه أحد أو يشعر إنسان فيفعلها.
وهكذا ينشأ ذلك الشاب في مجال عمله مثلًا متربصًا غياب الأعين عن متابعته، فيتسور جدار الإتقان والتفاني في العمل لأنه يعلم أنه لن يحاسب لأنه غير مراقب، وهذا الشخص لاشك تشعر فيه باضطرابًا نفسيًا كبيرًا.
أما شباب التقوى الذين سكنت قلوبهم منزلة تعظيم ربهم، فإنهم أنأى الناس عن ذلك حين أن مراقبة ربهم ولزومهم تقواه علمهم أن أعين الناس ليست هي من تراقبهم، وأن إرضاءهم ليس هو الأساس، ومن ثم تجد هؤلاء في قمة الاستقرار النفسي حيث أن السلام السكينة تسكن قلوبهم وعقولهم.
مسئولية جسيمة
إن استشعار الآباء لمسئوليتهم الجسيمة بين يدي الله تبارك وتعالى لا تفارقهم أبدًا، ولما لا وقد قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وإن من أعظم المسئوليات أن يربوا فيهم تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى، وتغرس هذه القضية في قلوب الشباب من خلال:
أولًا: أن يرى الأبناء آباءهم قدوة حقيقية من خلال تقديمهم على أمر الله سبحانه وتعالى في شتى أمور حياتهم، والتوقف عند ما حرمه الله تعالى ونهى عنه، وينبغي أن يرى الشباب قضية تعظيم حرمات الله تبارك وتعالى صورة حية في مواقف حياتية تمر بالآباء الفضلاء والأمهات الفضليات.
ثانيًا: أن يجعل يعود الآباء أبناءهم في القضايا المختلفة على أنهم يستندون إلى أمر الله عز وجل، فيقولون مثلًا: (مهلًا يا بني حتى نرى هذا الأمر حلالًا أمر حرامًا، يا بني هذا الأمر لا يجوز وبالتالي لا يمكن أن أقدم عليه، يا بني من ترك شيئًا لله عوضه الله خير منه، يا بنيتي أن سأساعدك في هذا الأمر بكل قوتي لأنه يرضي الله... إلخ).
في الختام
كي تبدأ رحلتك في تحقيق التقوى، أعد ورقة وكتب في أحد شقيها المعاصي التي ترتكبها وعاهد ربك أن تقلع عنها، واكتب الطاعات والفرائض المقصر في آدائها وبدأ في المواظبة عليها.
وكي تقدر ربك حق قدره، ويسكن قلبك قدره وعظمته، أبدأ رحلتك التي تهدف من ورائها للتعرف أكثر على خالقك ومولاك سبحانه وتعالى، فطالع مثلًا كتاب (العظمة في كل مكان) للدكتور هارون يحيى، استمع للشرائط التي تتكلم في قضية التدبر والتأمل كشريط (دعوة للتأمل) للشيخ على القرني.
المصادر:
صفة الصفوة ابن الجوزي.
الجواب الكافي ابن القيم.
وما قدروا الله حق قدره فريد مناع.
اسم الموضوع : حتى في المنام ؟!
|
المصدر : .: أشتات وشذرات :.