بركان يوسف شون
مراقب سابق
عادة قديمة من التراث الأصيل
( النولا ) والكرم الأركاني البرماوي
فكرة وحوار وتصوير - بركان
ترتيب وصياغة وتنزيل - محمد أمين الأركاني ( أبونواف )
تميّز المجتمع الروهنجي الأركاني البرماويّ في الأعراس والمناسبات الاجتماعيّة قديماً وحديثاً بطعام شهيّ عبارة عن أكلة شعبية موروثة من صنف الإيدامات تحتوي على البهارات والفلافل الحارّة، تصنع هنا في السعودية غالباً من لحم الإبل والناقة، ومن لحم الأبقار والجاموس* والغنم في أراكان بورما لعدم توفر الجِمال والنياق هناك، ويقوم بصنعها أمهر طباخي الأركانيين البرماويين، وتدعى هذه الأكلة في اللغة الدارجة الروهنجية الأركانية بِـ ( مَيلاَر صَالُون* ).
ففي الولائم والمناسبات العامة للجالية الأركانية البرماوية المقيمة بالمملكة يتم نحر الإبل عوضاً عن الأغنام والخرفان وذلك لتواضع الحالة المادية لأغلب الأسر والأفراد البرماوية وليتم استيعاب كافة المدعويين والمعازيم الذين يحضرون بالمئات من الصغار والكبار والرجال والنساء.
في صباح يوم المناسبة أو العرس يتم نحر الجمل وسلخه في أحد مسالخ البلدية المرخصة ثم ينقل إلى مقر المناسبة أو الاحتفال، وهناك يتكاتف بعض الشباب من الأقارب والأصدقاء في تقطيع اللحم وفرده وتحضير مكونات الطبخ من البصل والفلفل والزنجبيل والبطاطس وغير ذلك، ثم يبدأ الطباخ بالشروع في عمله بمساعدة من الشباب في تقليب القدور؛ ومما تجدر الإشارة إلى أن كل حي من أحياء الجالية الأركانية البرماوية يحتضن طبّاخين مهرة لهم سمعة رائجة وصَيت ذائع وباع طويل في صنع هذه الأكلة من الإيدام ( مَيلارْ صَالُون* ).
وبعد صلاة العشاء يتوافد الضيوف والمدعوون ( المعازيم ) ثم يقدَّم هذا الإيدام في زبديات كبيرة ويوضع الرز الأبيض في زبديات أخرى وتوضع أمام الضيوف، فيقوم كل ضيف بغرف الرز والإيدام إلى صحنه الخاص.
لكن موضوعنا الذي نريد تسليط الضوء عليه وبشكل مؤصل عادة أركانية أصيلة ارتبطت منذ نشأتها بالجود والكرم ما تعرف باللغة الدارجة الروهنجية ( جَماَلرْ نولا* ) أو عادة تقديم سيقان الجمل.
عادة تقديم سيقان الجمل.
هذه العادة تمارس في الأعراس ومختلف المناسبات بحيث يتم تقديم الإيدام مع السيقان للضيوف والمدعويين والوجهاء والأعيان وأرباب العمل والمشايخ وحفظة كتاب الله كتعبير بالغ عن الكرم البرماوي وحسن الضيافة وحفاوة الإستقبال، وهي من العادات العريقة والتقاليد البرماوية الأصيلة والتي توارثها الأجيال.
إلا أن هذه العادة بدأت الآن في طريقها إلى الاندثار وبدأت تتلاشى شيئا فشيئا نظراً لاندماج الجالية الأركانية البرماوية مع المجتمع السعودي وانسجامها مع عاداته وتقاليده إذ لا ترى في معظم الولائم والمناسبات الأركانية الحالية إلا الكبسة السعودية في غياب ومعزل تام عن الأكلة الموروثة ( مَيلارْ صَالُون* ) ولا أبالغ حينما أقول إن هذه العادة الأصيلة التي سار عليها أباؤنا وأجدادنا أصبحت لدينا في الوقت الحالي وللأسف الشديد وسيلة للإضحاك والتسلية وصنع المقالب بحيث تقدم السيقان الآن على وجه التضحيك والتنكيت.
بناء على طلب أبي نواف مراقب القسم قمت ببحث مؤصل وذلك باستضافة بعض كبار السن والمثقفين في دكتي ممن ولدوا ببورما وعايشوا هذه العادة الأصيلة لأستطلع آرائهم ومعرفة المزيد عن هذه العادة وعن مصدرها ونشأتها وطريقة ممارستها هناك.
في البداية تحدث الجد ( جمال حسين ) حيث قال: إنني من (هادُور فارا*) في أراكان بورما التي كانت ولازالت تعيش في فقر مدقِع فيتعذر إقامة الولائم إلا نادراً،
وأضاف يستحيل توفر الإبل هناك فلذلك تذبح الأبقار وتقدم سيقانها ضمن الإيدام للشيوخ وكبار السن فقط لكونهم يترقبون بشغف بالغ هذه الأكلة التي حرموا منها بسبب االفقر والعوز ومن هنا كانت نشأة هذه العادة الأصيلة على حد قوله.
فيما ذهب الجد ( قاسم أحمد ) مخالفا لرأيه فقال: كانت الأعراس تقام بالعشرات في منطقتنا (كُورْهَلي*)، وكانت ذبائحنا في الأعراس والمناسبات من الجاموس* فقط مشيرا إلى أن هذه العادة تأتي وفقا للعادات والتقاليد التي توارثناهاعن آبائنا وأجدادنا بحيث يكون السيقان في الولائم من نصيب آباء وأمهات زوجاتنا ( خور و خوري* ) تقديرا لهم وإكراما.
أما مستر فياض وهو رجل واعٍ ومثقف ممن ولد ونشأ في ( تُون بازار* ) بأراكان بورما ويجيد الإنجليزية بطلاقة تحدث إلينا فقال: إن هذه العادة التي تتجلى فيها أعرافنا وقيمنا الأصيلة نشأت وانطلقت أساسا من أراكان واستوردها منا دول أخرى كباكستان وبنجلاديش وغيرهما مؤكدا أنهم كانوا يقدمون السيقان للزائر أو الصديق القادم من منطقة أخرى سواء كان فقيرا أو غنيا كتعبير بالغ عن الجود والكرم والقيم البرماوية النبيلة.
في حين شاطره في الرأي السيد فياض الاسلام وهو قدم من ( نارانْشونْك* ) بأراكان بورما قبل خمس سنوات حيث قال:هذه العادة متأصلة في الإنسان الأركاني، نحن نقدم في الاحتفالات والأفراح سيقان البقر والجاموس والماشية للشيوخ وكبار السن، وهي مازالت سارية ويحتفظ بها في أراكان بورما إلى يومنا هذا على الرغم من بدء اندثارها هنا لكنها برأيي ستظل هناك جارية باقية بإذن الله.
وأضاف معظم المسلمين الآن في أراكان بورما غير مقتدرين على إقامة الولائم في ظل ارتفاع مستويات البطالة وتفاقم معدلات الفقر والظلم والاضطهاد البوذي والمعاناة التي تكتنف المسلمين في حياتهم اليومية من جهة، والأزمات والنكبات السياسية والظروف الاقتصادية المتدهورة من جهة أخرى مشيرا إلى أن العقوبات الاقتصادية المفروضة علىبورما ( ميانمار حاليا ) من قبل الولايات المتحدة الأمريكية زادت الطين بلة، علاوة على فرض الحكومة العسكرية البوذية الغاشمة شروطاً قاسية وإجراءات مشددة على زواج المسلمين مما أدى إلى عزوف الكثيرين عن الزواج والتزاوج مؤكدا أن من يملك المال يلجأ إلى دفع الرشاوى والمبالغ الباهظة للسلطات البوذية لأجلالموافقة على الزواج.
واختتم حديثه بنبرة حزينة قائلا قد يخفى عليكم أن العامل الأركاني هناك في بورما يتقاضى بعد جهد جهيد وعناء شاق راتبا قدره 30 ألف كيات ميانماري* في الشهر، وأن قيمة إيك بيسا* من اللحم تبلغ الآن 5 آلاف كيات*، بينما إيك بيسا* من الرز يقدر بـ 600 كيات*.
وأن هذا يعني أن الناس تعجز عن شراء كيلو من اللحم فضلا عن شراء بقرة أو جاموس لعمل وليمة مؤكدا أن أكثر من 85% من المسلمين في إقليم أراكان يعيشون تحت خط الفقر ولاحول ولاقوة إلا بالله.
فيما قال محمد سلام : لقد أصبحنا نحن كبار السن وكل من قدم حديثا من بورما لانحبذ الآن حضور الأعراس والمناسبات الأركانية التي تقدم كبسة اللحم والأرز، وإن دعينا إليها نحضرها على سبيل إجابة الدعوة فقط، وأشار إلى أن هذه الأعراس يحدث بها الكثير من الإسراف والتبذير وغالبا مايرمى الفائض منها لأقرب سلة نفايات.
وأضاف نحرص كثيرا على حضور الأعراس والمناسبات التي تقدم الأكلة الشعبية ( مَيلارْ صَالُون* ) لأننا نحس فيها بطعم الولائم ومثل هذه ليس بها تبذير أو إسراف، واختتم كلامه بتوجيه نصيحة للجيل الحالي والصاعد للحفاظ على هذه الأكلة التراثية المفلفلة التي خطت أولى خطواتها في طريق الاندثار والأفول ويخشى أن تكون في خبر كان بعد وفاتنا نحن الآباء والأجداد.
أما السيد سليم ناصر وهو رجل قدم في رمضان هذا العام من كراتشي بباكستان قال:مازال البرماويون في باكستان يحتفظون بهذه الأكلة المفلفلة في الولائم والأعراس مع إحياء هذه العادة الأصيلة، وأكد أن السيقان ( نولا* ) تقدم هناك للشيوخ وكبار السن والضيوف.
بينما قال ياسين بني حسين والقادم حديثا من بنغلادش: رغم الفقر الشديد والعوز المرير والظروف الاقتصادية القاسية التي تعاني منها دولة بنجلاديش إلا أن البرماويين هناك يقيمون ولائم الأعراس مؤكدا أن هذه العادة متعارف عليها إلى يومنا هذا وتمارس بحق الشيوخ وكبار السن،
واستدرك قائلا إلا أن من المفارقات في تلك الولائم أن الضيف يحصل على قطع وأوصال معدودة من لحم الإيدام وذلك لتردي الأحوال المادية الخانقة.
وكان لنا لقاء عابر مع المواطن السعودي ( شمّاص المالكي ) وهو يقطن حي البلدية أحد الأحياء التي يسكنها الأركانيون البرماويون حيث وجهنا له السؤال عن انطباعه لهذه الأكلة الشعبية المُفلفلة التي تقدم في الأعراس والمناسبات الأركانية فأجاب قائلا: إنها أكلة لذيذة وشهية جدا وأنا مثل إخوتي أعشق هذا الإيدام المبهر والمفلفل لدرجة أني لو كنت مدعوا في وليمتين مختلفتين أفضّل حضور الوليمة البرماوية التي تقدم هذا النوع من الإيدام،
ويضيف من شغفي بهذه الأكلة أذكر ذات يوم ذهبت لإحدى المناسبات البرماوية وكنت غير مدعوا فطلبت من الطباخ تزويدي ببعض الإيدام مقابل مبلغ مادي فنفذ طلبي دون أن يأخذ مني شيئا.
وحينما سألناه هل بإمكانه أن يحتمل حرارة الفلفل اللاذعة أجاب بقوله :رغم لهيب الفلفل الحار وتصبب العرق منوجهي إلا أني أواصل في أكله رغبةً في لذته الفريدة وتمتعا بنكهته اللذيذة.
نترككم مع الصور
*
*
الجمل في طريقه إلى المسلخ ليتم نحره وسلخه والإشراف عليه من قبل الطبيب البيطري - الصورتين ملطوشة -
*
*
*
الطباخ يغرف الأكلة الشعبية البرماوية ( ميلارصالون* ) في زبديات خاصة مع السيقان ( النولا* )
*
توصيل الطلبات مجانا هههه
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
السيقان ( النولا* ) بين أيدي الأعيان والوجهاء وكبار السن والشباب كتعبير عن الكرم والتقدير وحسن الضيافة
*
هذا الشاب يحاول استكشاف واستخراج نخاع العظام وفي رواية مخ العظام بقوة
*
أخيرا نجحت المحاولة والان يبدأ في عملية تنقيب النخاع أو المخ هههه
*
يتقاسمان الكعكة هههه
*
*
*
تظهر السيقان ( النولا* ) مع الإيدام وقد وضعت في زبديات
*
بركان يحاور الجد جمال حسين في دكته
*
الجد قاسم أثناء حواره مع بركان
*
فياض الاسلام وبركان في حوار هادئ
*
محمد سلام يوصي الجيل الصاعد بالحفاظ على الأكلة الشعبية المفلفلة ( ميلار صالون* )
*
شمّاص المالكي يوضح عشقه لهذه الأكلة البرماوية المفلفة
هذا غيض من فيض عاداتنا وتقاليدنا، وسنملأ هذا القسم بإذن الله في الأيام القادمة بكل ماهو جدير بطرحه وتسليط الضوء عليه ، ونطالب جميع الأعضاء والعضوات بالتفاعل والمشاركة في هذا الموضوع الذي تعبنا في إعداده كثيرا، وكما نطالب بملئ هذا القسم بالمواضيع التي تحكي عن عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الأصيلة.
** توضيح وترجمة بعض المصطلحات الغامضة **
نُولا : الساق وهو مصطلح برماوي يقصد به ساق الجمل أو البقر.
مِيلارْ صَالُون: مصطلح أركاني مشهور يطلق على الأكلة الشعبية ( الإيدام المُفلْفل ) المقدمة في الأعراس والمناسبات الأركانية البرماوية.
هَادُورْ فََارا، تُونْ بازار، نَارانْشونْك، سُوفَرنْغ: جميعها أسماء قرى وضواحي بمدينة بُوسِيدَنْغ شرق أراكان الحبيبة.
كُورْهَلي: أحد مراكز مدينة مَنْدو المطلة على حدود نهر ناف غرب أراكان الجريحة.
الجَامُوس ( مصطلح عربي ): أو ما يعرف بالمُوش لدى البرماويين وهو حيوان من فصيلة الأبقار بحجم الثيران تقريبا يستخدم للحرث والعمل في حقول الأرز في الصين وبورما وفيتنام وتايلاند ودول جنوب شرق آسيا.
خور خوري: والد ووالدة الزوجة..
كيات: عملة ميانمار وتساوي الآن 280 كيات ميانماري مقابل 1 ريال سعودي.
ايك بيسا: من وحدات القياس والوزن هناك وتساوي كيلوين إلا ربع تقريبا..
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
اسم الموضوع : ( النولا ) والكرم البرماوي
|
المصدر : .: تراث الأجداد :.
