ابو وجدان البرماوي
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
عونك يا رب
الحمد لله وحده.. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. ثم أما بعد..
فإن مسألة من هو الذبيح؛ قد اختلف أهل العلم سلفاً وخلفاً اختلافاً كبيراً في تعيينه على قولين.
وقبل التعرض لهذه المسألة تجدر الإشارة إلى وقفات مهمة بين يدي بحث وتقرير المسألة؛ فأقول:
أولاً: لم يثبت حديث صحيح واحد عنه صلى الله عليه وسلم نصاً في تحديد من هو الذبيح، وما هو منتشر في ذلك في الكتب فأحاديث ضعيفة معلّة لا تثبت قد فنّدها العلماء وفضحوا أمرها وحالها مما لا تتسع هذه العجالة في تبيينه ووضعه هنا، وأكثر ما في هذا الباب هو إما روايات منقولة عن أهل الكتاب، وإما كلامٌ موقوف على قائله لا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم,
ثانياً: بالنسبة لمن قال أن الذبيح هو (إسحاق) فحقيقة قد استدلوا بأدلة واهية جداً لا تقارن ولا تقارع أدلة من قال أنه (إسماعيل)، بل جل متمسكهم نقولات من روايات أهل الكتاب المحرفة والتي يشهد الكتاب المقدس كما يقال بزيفها؛ فضلاً عن ضعفها، وبعض الأدلة الضعيفة الواهية التي لا تثبت. وسيأتي طرفاً من ذلك إن شاء الله.
ثالثاً: نسبة القول بأن الذبيح هو (إسحاق) أنه قول الجمهور؛ هي نسبة مغلوطة غير صحيحة، بل العكس صحيح في ذلك، وسيأتي معك إن شاء الله بيان ذلك.
رابعاً: أقوال أهل العلم في تعيين من هو الذبيح:
· قال الإمام ابن الجوزي في (زاد المسير 7/72):
(واختلفوا في الذبيح على قولين:
أحدهما: أنه (إسحاق) قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب _ في رواية _، والعباس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري _ في رواية _، وأبو هريرة _ في رواية _، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم ابن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير _ والقرطبي وانتصر له بدون تحرير _.
وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام، وقيل: طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر بمنى في ساعة.
والثاني: أنه (إسماعيل) قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط.
واختلفت الرواية عن ابن عباس؛ فروى عنه عكرمة أنه (إسحاق)، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران؛ أنه (إسماعيل)، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين.
وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي؛ روايتان، وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان، ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول).
· وقال ابن أبي حاتم في (تفسيره 10/3223):
(وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام. قال: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح؛ أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل).
· وقال الإمام النووي في (تهذيب الأسماء 1/127):
(واختلف العلماء في الذبيح هل هو (إسماعيل) أم (إسحاق)؛ والأكثرون على أنه (إسماعيل)، وكان إسماعيل أكبر من إسحاق كما سبق في ترجمة إبراهيم).
· قال ابن أبي عاصم في (الزهد ص391):
(سئل أبو عبد الرحمن عن الذبيح؛ فقال: أكثر الحديث إسماعيل عليه السلام، كان أبي رحمه الله يميل إلى هذا).
· قال المرداوي في (الإنصاف 10/410):
(الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ عليه السَّلَامُ على أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ).
· وقال في (الفروع وتصحيحه6/288):
(وَهَلْ الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ؟ اخْتَارَهُ ابن حَامِدٍ، وابن أبي مُوسَى، وهو أَظْهَرُ؛ قال شَيْخُنَا: وهو قَطْعِيٌّ. أو إِسْحَاقُ؟ اخْتَارَهُ أبو بَكْرٍ ،وَالْقَاضِي؛ قال ابن الْجَوْزِيِّ: نَصْرَهُ أَصْحَابُنَا، فيه رِوَايَتَانِ. انْتَهَى
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وابن الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إسْمَاعِيلُ من أَكْثَرَ من عِشْرِينَ وَجْهًا من الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ).
· وقال البهوتي في (كشاف القناع 6/212):
(وإسماعيل بن إبراهيم على نبينا وعليهما الصلاة والسلام هو الذبيح على الصحيح؛ لا إسحاق، كما يدل عليه ظاهر الآية وتشهد به الأخبار).
· وقال الفاكهي في (أخبار مكة 5/126):
(ذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام: نقل ذلك من طريق مجاهد عن ابن عباس، ومن طريق عكرمة عن ابن عباس، ونقل عن مجاهد نفسه، وعن سعيد بن المسيب، وعن سعيد بن جبير، وعن أبي الخلد، وعن عبد الله بن سلام، ولفظه: كنا نقرأ في كتب اليهود أنه إسماعيل، ونقله أيضا عن محمد بن كعب القرظي، وعن سعيد بن جبير، وعن الحسن).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى 4/331) لما سئل عن الذبيح من ولد خليل الله إبراهيم عليه السلام هل هو (إسماعيل) أو (إسحاق)، فأجاب:
(الحمد لله رب العالمين؛ هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصر _ أي القاضي _ أنه إسحاق إتباعا لأبى بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير، ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق، وإنما ينصره هذان ومن اتبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه.
وذكر الشريف أبو على بن أبى يوسف أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل، وهذا هو الذي رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه؛ قال: مذهب أبى أنه إسماعيل.
وفى الجملة فالنزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وأيضا فإن فيها أنه قال لإبراهيم: اذبح ابنك وحيدك. وفى ترجمة أخرى: بكرك.
وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحاق؛ فتلقى ذلك عنهم من تلقاه، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق، وأصله من تحريف أهل الكتاب.
ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات؛ قال تعالى: {وبشرناه بغلام حليم}، وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليما، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
وقيل لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم} {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}؛ لأن الحادثة شهدت بحلمهما، {فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} إلى قوله: {وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم إنا كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.
فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه:
أحدها: أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولاً، فلما استوفى ذلك قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق} فبين أنهما بشارتان؛ بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن.
الثاني: أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفى سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود من قوله تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفاً للوعد في يعقوب، وقال تعالى: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشرناه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم}، وقال تعالى في سورة الحجر:{قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين}، ولم يذكر أنه الذبيح.
ثم لما ذكر البشارتين جميعا؛ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح.
ويؤيد ذلك أنه ذكر هِبَته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} ولم يذكر الله الذبيح.
الوجه الثالث: أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لا بد له من حكمة، وهذا مما يقوى اقتران الوصفين؛ الحلم هو مناسب للصبر الذي هو خُلُق الذبيح.
وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى: {واذكر إسماعيل وليسع وذا الكفل كل من الصابرين}، وهذا أيضا وجه ثالث؛ فإنه قال في الذبيح: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف الله تعالى إسماعيل أيضا بصدق الوعد في قوله تعالى: {إنه كان صادق الوعد} لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
الوجه الرابع: أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} وقالت امرأته: {أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا}، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكبر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته.
وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم عليه السلام، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي وأصحابه في الصحيح وغيره من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أمر بالذبح، وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك.
ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق؛ أن الله تعالى قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}؛ فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب؟! ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم عليه السلام، وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب.
ومما يدل على ذلك؛ أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن: "إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي"، ولهذا جعلت منى محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة لا من أهل الكتاب ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام فهذا افتراء؛ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعُرِفَ ذلك الجبل، وربما جعل منسكا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر.
وفى المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه، وأسئلة أوردها طائفة كابن جرير والقاضي أبي يعلى والسهيلي ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها والله عز وجل أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
· وقال في (مختصر الفتاوى المصرية ص523):
(هل الذبيح (إسماعيل) أو (إسحاق) فيه قولان مشهوران هما روايتان، كل منهما قول عن السلف، ونص القاضي أبو يعلى أنه إسحاق تبعا لأبي بكر عبد العزيز، وقال ابن أبي موسى: الصحيح أنه إسماعيل.
والذي يجب القطع به أنه إسماعيل.
يدل على ذلك الكتاب والسنة والتوراة؛ فإن فيها أنه قال لإبراهيم: اذبح ابنك وحيدك، وفي ترجمة أخرى: بكرك، وإسماعيل هو بكره ووحيده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحاق، فتلقى ذلك منهم من تلقاه وشاع بين المسلمين.
ومما يدل على أنه إسماعيل عليه السلام؛ قصة الذبيح التي في الصافات حيث قال: {فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} إلى قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} إلى قوله: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} فهذه القصة تدل من وجوه على أنه إسماعيل:
أحدها: أن البشارة بالذبيح ذكر فيها قصة ذبحه، فلما استوفى ذلك قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق} فهما بشارتان: بشارة بالذبيح، وبشارة بابنه إسحاق، وهذا بيّن.
الوجه الثاني: أنه لم يذكر قصة الذبيح إلا في هذه السورة، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما قال في سورة هود: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وقال تعالى في سورة الذاريات: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} وقال في سورة الحجر: {قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون}، ولم يذكر مع البشارة بإسحاق أنه ذبيح مع تعدد المواضع، فإذا كان قد ذكر البشارة بإسحاق وحده غير مرة ولم يذكر الذبيح ثم ذكر البشارتين جميعا؛ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده؛ كان هذا من أبين الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح.
ويؤيد ذلك أنه ذكر هِبَته وهبة يعقوب لإبراهيم بقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } ولم يذكر ذلك في الذبيح.
الوجه الثالث: أنه تعالى ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق قال: {بغلام عليم} في غير موضع، ولا بد لهذا التخصيص من حكمة، وهذا يقوي اقتران الوصفين، والحليم الذي هو ثابت للصبر، الذي هو خلق الذبيح، وإسماعيل وصف بالصبر في قوله: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} وهذا وجه، فإنه قال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
الوجه الرابع: أن البشارة بإسحاق كانت معجزة، لأن أمه عجوز عقيم وأبوه قد مسه الكبر، والبشارة مشتركة لإبراهيم وامرأته، وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة، ولم تكن ولادته خرق عادة، وهذا يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح من أن إسماعيل لما ولد لهاجر غارت سارة فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة وهناك كان أمر الذبح؛ فإنه يؤيد أن إسماعيل هو الذبيح ليس هو إسحاق، لأنه قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه؟! وكانت البشارة وقصة الذبيح في حياة إبراهيم بلا ريب.
ويدل على ذلك أن قصة الذبيح كانت بمكة، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال للسادن: "أردت أن آمرك أن تخمر قرني الكبش فنسيت، فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة شيء يلهي المصلي" فلهذا جعلت منى محلاً للنسك من عهد إبراهيم.
وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت بنص القرآن، ولم يقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، وبعض المفسرين من أهل الكتاب يزعم أن قصة الذبيح كانت في الشام، وهذا افتراء بيّن؛ فإنه لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك الجبل وربما جعل منسكا كما جعل المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وما خوله من المشاعر.
وهناك دلائل أخر وعلى ما ذكرناه أسئلة أوردها طائفة كابن جرير والقاضي أبي يعلى والسهيلي ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها وجوابها).
· وقال في (منهاج السنة النبوية 5/353):
(ولهذا امتحن الله إبراهيم بذبح ابنه؛ والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير (إسماعيل) كما دلت على ذلك سورة الصافات وغير ذلك، فإنه قد كان سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشره بالغلام الحليم إسماعيل، فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق، إذ كان قد طلبه وهو بكره، وكذلك في التوراة يقول: اذبح ابنك وحيدك، وفي ترجمة أخرى: بكرك، ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق وهو باطل، فإن إسحاق هو الثاني من أولاده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، فليس هو وحيده ولا بكره، وإنما وحيده وبكره إسماعيل، ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، وقال في الآية الأخرى: {فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه؟!
والبشارة بإسحاق وقعت لسارة وكانت قد غارت من هاجر لما ولدت إسماعيل، وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة، ثم لما جاء الضيف وهم الملائكة لإبراهيم بشروها بإسحاق، فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده؟! بل غارت أن يكون له ابن من غيرهما، فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها؟! وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه وأمه مبشرة به وبابن ابنه يعقوب؟!
وأيضا فالذبح إنما كان بمكة وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرني الكبش في البيت فقال للحاجب: "إني رأيت قرني الكبش في الكعبة فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي"، وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن، وإسحاق كان في الشام.
والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى، وهذا إذا كان له ابن واحد؛ فإذا صار له ابنان فالمقصود لا يحصل إلا بذبحهما جميعا، وكل من قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن اليهود أهل التحريف والتبديل كما أخبر الله تعالى عنهم، وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد).
· وقال في (الرد على المنطقيين ص517):
(ولهذا أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه؛ فإنه كان قد سأل الله أن يهبه إياه ولم يكن له ابن غيره، فإن الذبيح هو إسماعيل على أصح القولين للعلماء، وقول أكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فقال الخليل: {رب هب لي من الصالحين} قال الله: {فبشرناه بغلام حليم} والغلام الحليم إسماعيل، وأما إسحاق فقال فيه: {فبشرناه بغلام عليم}.
وإسحاق بشرت به سارة أيضا لما غارت من هاجر، والله ذكر قصته بعد قصة الذبيح، فإنه لما ذكر قصة الذبيح قال بعدها: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصلحين}.
والمقصود هنا أن الله أمر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال).
· قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد 1/71):
(وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق. قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.
وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب؛ فقال تعالى عن الملائكة إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه! ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه.
فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة (ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل: لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به، لأن البشارة قول مخصوص وهي أول خبر سار صادق، وقوله تعالى: {ومن وراء إسحاق يعقوب} جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية، ولما كانت البشارة قولاً؛ كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول، كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب، والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه وثقله في أثره؛ لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة.
ثم يضعف الجر أمر آخر؛ وهو ضعف قولك: مررت بزيد ومن بعده عمرو، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور.
ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات قال: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين}، ثم قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته؛ أي: لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده وأن يكون نبيا، ولهذا نصب نبيا على الحال المقدر؛ أي: مقدرا نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة؛ هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليما؛ فقال تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون} إلى أن قال: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية.
وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك.
وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة فلم يبق في الذبح مصلحة إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدي الذبيح وصدق الخليل الرؤيا وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور.
عونك يا رب
الحمد لله وحده.. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. ثم أما بعد..
فإن مسألة من هو الذبيح؛ قد اختلف أهل العلم سلفاً وخلفاً اختلافاً كبيراً في تعيينه على قولين.
وقبل التعرض لهذه المسألة تجدر الإشارة إلى وقفات مهمة بين يدي بحث وتقرير المسألة؛ فأقول:
أولاً: لم يثبت حديث صحيح واحد عنه صلى الله عليه وسلم نصاً في تحديد من هو الذبيح، وما هو منتشر في ذلك في الكتب فأحاديث ضعيفة معلّة لا تثبت قد فنّدها العلماء وفضحوا أمرها وحالها مما لا تتسع هذه العجالة في تبيينه ووضعه هنا، وأكثر ما في هذا الباب هو إما روايات منقولة عن أهل الكتاب، وإما كلامٌ موقوف على قائله لا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم,
ثانياً: بالنسبة لمن قال أن الذبيح هو (إسحاق) فحقيقة قد استدلوا بأدلة واهية جداً لا تقارن ولا تقارع أدلة من قال أنه (إسماعيل)، بل جل متمسكهم نقولات من روايات أهل الكتاب المحرفة والتي يشهد الكتاب المقدس كما يقال بزيفها؛ فضلاً عن ضعفها، وبعض الأدلة الضعيفة الواهية التي لا تثبت. وسيأتي طرفاً من ذلك إن شاء الله.
ثالثاً: نسبة القول بأن الذبيح هو (إسحاق) أنه قول الجمهور؛ هي نسبة مغلوطة غير صحيحة، بل العكس صحيح في ذلك، وسيأتي معك إن شاء الله بيان ذلك.
رابعاً: أقوال أهل العلم في تعيين من هو الذبيح:
· قال الإمام ابن الجوزي في (زاد المسير 7/72):
(واختلفوا في الذبيح على قولين:
أحدهما: أنه (إسحاق) قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب _ في رواية _، والعباس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري _ في رواية _، وأبو هريرة _ في رواية _، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم ابن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير _ والقرطبي وانتصر له بدون تحرير _.
وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام، وقيل: طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر بمنى في ساعة.
والثاني: أنه (إسماعيل) قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط.
واختلفت الرواية عن ابن عباس؛ فروى عنه عكرمة أنه (إسحاق)، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران؛ أنه (إسماعيل)، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين.
وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي؛ روايتان، وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان، ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول).
· وقال ابن أبي حاتم في (تفسيره 10/3223):
(وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام. قال: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح؛ أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل).
· وقال الإمام النووي في (تهذيب الأسماء 1/127):
(واختلف العلماء في الذبيح هل هو (إسماعيل) أم (إسحاق)؛ والأكثرون على أنه (إسماعيل)، وكان إسماعيل أكبر من إسحاق كما سبق في ترجمة إبراهيم).
· قال ابن أبي عاصم في (الزهد ص391):
(سئل أبو عبد الرحمن عن الذبيح؛ فقال: أكثر الحديث إسماعيل عليه السلام، كان أبي رحمه الله يميل إلى هذا).
· قال المرداوي في (الإنصاف 10/410):
(الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ عليه السَّلَامُ على أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ).
· وقال في (الفروع وتصحيحه6/288):
(وَهَلْ الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ؟ اخْتَارَهُ ابن حَامِدٍ، وابن أبي مُوسَى، وهو أَظْهَرُ؛ قال شَيْخُنَا: وهو قَطْعِيٌّ. أو إِسْحَاقُ؟ اخْتَارَهُ أبو بَكْرٍ ،وَالْقَاضِي؛ قال ابن الْجَوْزِيِّ: نَصْرَهُ أَصْحَابُنَا، فيه رِوَايَتَانِ. انْتَهَى
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وابن الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إسْمَاعِيلُ من أَكْثَرَ من عِشْرِينَ وَجْهًا من الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ).
· وقال البهوتي في (كشاف القناع 6/212):
(وإسماعيل بن إبراهيم على نبينا وعليهما الصلاة والسلام هو الذبيح على الصحيح؛ لا إسحاق، كما يدل عليه ظاهر الآية وتشهد به الأخبار).
· وقال الفاكهي في (أخبار مكة 5/126):
(ذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام: نقل ذلك من طريق مجاهد عن ابن عباس، ومن طريق عكرمة عن ابن عباس، ونقل عن مجاهد نفسه، وعن سعيد بن المسيب، وعن سعيد بن جبير، وعن أبي الخلد، وعن عبد الله بن سلام، ولفظه: كنا نقرأ في كتب اليهود أنه إسماعيل، ونقله أيضا عن محمد بن كعب القرظي، وعن سعيد بن جبير، وعن الحسن).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى 4/331) لما سئل عن الذبيح من ولد خليل الله إبراهيم عليه السلام هل هو (إسماعيل) أو (إسحاق)، فأجاب:
(الحمد لله رب العالمين؛ هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصر _ أي القاضي _ أنه إسحاق إتباعا لأبى بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير، ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق، وإنما ينصره هذان ومن اتبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه.
وذكر الشريف أبو على بن أبى يوسف أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل، وهذا هو الذي رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه؛ قال: مذهب أبى أنه إسماعيل.
وفى الجملة فالنزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وأيضا فإن فيها أنه قال لإبراهيم: اذبح ابنك وحيدك. وفى ترجمة أخرى: بكرك.
وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحاق؛ فتلقى ذلك عنهم من تلقاه، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق، وأصله من تحريف أهل الكتاب.
ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات؛ قال تعالى: {وبشرناه بغلام حليم}، وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليما، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
وقيل لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم} {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}؛ لأن الحادثة شهدت بحلمهما، {فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} إلى قوله: {وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم إنا كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.
فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه:
أحدها: أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولاً، فلما استوفى ذلك قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق} فبين أنهما بشارتان؛ بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن.
الثاني: أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفى سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود من قوله تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفاً للوعد في يعقوب، وقال تعالى: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشرناه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم}، وقال تعالى في سورة الحجر:{قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين}، ولم يذكر أنه الذبيح.
ثم لما ذكر البشارتين جميعا؛ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح.
ويؤيد ذلك أنه ذكر هِبَته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} ولم يذكر الله الذبيح.
الوجه الثالث: أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لا بد له من حكمة، وهذا مما يقوى اقتران الوصفين؛ الحلم هو مناسب للصبر الذي هو خُلُق الذبيح.
وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى: {واذكر إسماعيل وليسع وذا الكفل كل من الصابرين}، وهذا أيضا وجه ثالث؛ فإنه قال في الذبيح: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف الله تعالى إسماعيل أيضا بصدق الوعد في قوله تعالى: {إنه كان صادق الوعد} لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
الوجه الرابع: أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} وقالت امرأته: {أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا}، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكبر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته.
وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم عليه السلام، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي وأصحابه في الصحيح وغيره من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أمر بالذبح، وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك.
ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق؛ أن الله تعالى قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}؛ فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب؟! ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم عليه السلام، وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب.
ومما يدل على ذلك؛ أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن: "إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي"، ولهذا جعلت منى محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة لا من أهل الكتاب ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام فهذا افتراء؛ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعُرِفَ ذلك الجبل، وربما جعل منسكا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر.
وفى المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه، وأسئلة أوردها طائفة كابن جرير والقاضي أبي يعلى والسهيلي ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها والله عز وجل أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
· وقال في (مختصر الفتاوى المصرية ص523):
(هل الذبيح (إسماعيل) أو (إسحاق) فيه قولان مشهوران هما روايتان، كل منهما قول عن السلف، ونص القاضي أبو يعلى أنه إسحاق تبعا لأبي بكر عبد العزيز، وقال ابن أبي موسى: الصحيح أنه إسماعيل.
والذي يجب القطع به أنه إسماعيل.
يدل على ذلك الكتاب والسنة والتوراة؛ فإن فيها أنه قال لإبراهيم: اذبح ابنك وحيدك، وفي ترجمة أخرى: بكرك، وإسماعيل هو بكره ووحيده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحاق، فتلقى ذلك منهم من تلقاه وشاع بين المسلمين.
ومما يدل على أنه إسماعيل عليه السلام؛ قصة الذبيح التي في الصافات حيث قال: {فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} إلى قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} إلى قوله: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} فهذه القصة تدل من وجوه على أنه إسماعيل:
أحدها: أن البشارة بالذبيح ذكر فيها قصة ذبحه، فلما استوفى ذلك قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق} فهما بشارتان: بشارة بالذبيح، وبشارة بابنه إسحاق، وهذا بيّن.
الوجه الثاني: أنه لم يذكر قصة الذبيح إلا في هذه السورة، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما قال في سورة هود: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وقال تعالى في سورة الذاريات: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} وقال في سورة الحجر: {قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون}، ولم يذكر مع البشارة بإسحاق أنه ذبيح مع تعدد المواضع، فإذا كان قد ذكر البشارة بإسحاق وحده غير مرة ولم يذكر الذبيح ثم ذكر البشارتين جميعا؛ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده؛ كان هذا من أبين الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح.
ويؤيد ذلك أنه ذكر هِبَته وهبة يعقوب لإبراهيم بقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } ولم يذكر ذلك في الذبيح.
الوجه الثالث: أنه تعالى ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق قال: {بغلام عليم} في غير موضع، ولا بد لهذا التخصيص من حكمة، وهذا يقوي اقتران الوصفين، والحليم الذي هو ثابت للصبر، الذي هو خلق الذبيح، وإسماعيل وصف بالصبر في قوله: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} وهذا وجه، فإنه قال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
الوجه الرابع: أن البشارة بإسحاق كانت معجزة، لأن أمه عجوز عقيم وأبوه قد مسه الكبر، والبشارة مشتركة لإبراهيم وامرأته، وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة، ولم تكن ولادته خرق عادة، وهذا يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح من أن إسماعيل لما ولد لهاجر غارت سارة فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة وهناك كان أمر الذبح؛ فإنه يؤيد أن إسماعيل هو الذبيح ليس هو إسحاق، لأنه قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه؟! وكانت البشارة وقصة الذبيح في حياة إبراهيم بلا ريب.
ويدل على ذلك أن قصة الذبيح كانت بمكة، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال للسادن: "أردت أن آمرك أن تخمر قرني الكبش فنسيت، فخمرها فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة شيء يلهي المصلي" فلهذا جعلت منى محلاً للنسك من عهد إبراهيم.
وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت بنص القرآن، ولم يقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، وبعض المفسرين من أهل الكتاب يزعم أن قصة الذبيح كانت في الشام، وهذا افتراء بيّن؛ فإنه لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك الجبل وربما جعل منسكا كما جعل المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وما خوله من المشاعر.
وهناك دلائل أخر وعلى ما ذكرناه أسئلة أوردها طائفة كابن جرير والقاضي أبي يعلى والسهيلي ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها وجوابها).
· وقال في (منهاج السنة النبوية 5/353):
(ولهذا امتحن الله إبراهيم بذبح ابنه؛ والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير (إسماعيل) كما دلت على ذلك سورة الصافات وغير ذلك، فإنه قد كان سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشره بالغلام الحليم إسماعيل، فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق، إذ كان قد طلبه وهو بكره، وكذلك في التوراة يقول: اذبح ابنك وحيدك، وفي ترجمة أخرى: بكرك، ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق وهو باطل، فإن إسحاق هو الثاني من أولاده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، فليس هو وحيده ولا بكره، وإنما وحيده وبكره إسماعيل، ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، وقال في الآية الأخرى: {فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه؟!
والبشارة بإسحاق وقعت لسارة وكانت قد غارت من هاجر لما ولدت إسماعيل، وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة، ثم لما جاء الضيف وهم الملائكة لإبراهيم بشروها بإسحاق، فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده؟! بل غارت أن يكون له ابن من غيرهما، فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها؟! وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه وأمه مبشرة به وبابن ابنه يعقوب؟!
وأيضا فالذبح إنما كان بمكة وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرني الكبش في البيت فقال للحاجب: "إني رأيت قرني الكبش في الكعبة فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي"، وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن، وإسحاق كان في الشام.
والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى، وهذا إذا كان له ابن واحد؛ فإذا صار له ابنان فالمقصود لا يحصل إلا بذبحهما جميعا، وكل من قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن اليهود أهل التحريف والتبديل كما أخبر الله تعالى عنهم، وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد).
· وقال في (الرد على المنطقيين ص517):
(ولهذا أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه؛ فإنه كان قد سأل الله أن يهبه إياه ولم يكن له ابن غيره، فإن الذبيح هو إسماعيل على أصح القولين للعلماء، وقول أكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فقال الخليل: {رب هب لي من الصالحين} قال الله: {فبشرناه بغلام حليم} والغلام الحليم إسماعيل، وأما إسحاق فقال فيه: {فبشرناه بغلام عليم}.
وإسحاق بشرت به سارة أيضا لما غارت من هاجر، والله ذكر قصته بعد قصة الذبيح، فإنه لما ذكر قصة الذبيح قال بعدها: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصلحين}.
والمقصود هنا أن الله أمر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال).
· قال العلامة ابن القيم في (زاد المعاد 1/71):
(وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق. قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.
وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب؛ فقال تعالى عن الملائكة إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه! ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه.
فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة (ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل: لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به، لأن البشارة قول مخصوص وهي أول خبر سار صادق، وقوله تعالى: {ومن وراء إسحاق يعقوب} جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية، ولما كانت البشارة قولاً؛ كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول، كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب، والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه وثقله في أثره؛ لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة.
ثم يضعف الجر أمر آخر؛ وهو ضعف قولك: مررت بزيد ومن بعده عمرو، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور.
ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات قال: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين}، ثم قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته؛ أي: لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده وأن يكون نبيا، ولهذا نصب نبيا على الحال المقدر؛ أي: مقدرا نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة؛ هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليما؛ فقال تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون} إلى أن قال: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية.
وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك.
وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة فلم يبق في الذبح مصلحة إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدي الذبيح وصدق الخليل الرؤيا وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور.
اسم الموضوع : القول الصريح الصحيح في تعيين من هو الذبيح.
|
المصدر : .: زاد المسلم :.