بسم الله الرحمن الرحيم
نزولاً عند رغبة بعض الفضلاء من الزملاء أجتنب في مشاركتي هذه ما يعدونه قسوةً في الكلمات وغلظةً في الجمل والعبارات ، بيد أن لسلوكي ذا المسلك له وجهته الوجيهة وهي : أن ثمةَ إخوةً وأخوات في منتدياتنا المفيدات - تقتضي الحكمةُ والمصلحةُ في نظرنا انتهاجَ ذاك المنهجِ معهم ؛ إذْ منهم الفكِرُ والفَكِريّة ، وآخر يريد إفساد ما رمنا إصلاحه وعاجز عن مقارعة الحجة بالحجة ،
فكل أوْلآئك ترجح المصلحةُ خطابَهم بما يحقق ردعهم عن الطريق المعوج ، وإرشادهم إلى السلوك الأنضج ،
ومن الصنف الأخير كتابات ( عبد العزيز 2) الذي عاتبنا البعض بقسوة ردنا السابق عليه في ذا الموضوع، فلو نظر العاتب فيما سطره بعدُ لأدبر في عتابه ، لكنّا في هذا الرد حريصون على كونه رداً لطيفاً خالصا ، وسمحاً محضا ، وعلمياً بحتا ، فلا تعرضَ فيه للذوات ولا شَخْصنةَ في الانتقادات ، بل وتجنبنا الرد على العبارات المسيئة في رده ، واقتصرنا الرد على إشكالاته المباشرة على ردنا السابق بإجابات علمية واضحة .
أولاً : تحرير محل النزاع والخلاف بيننا وبين ( عبد العزيز 2 ) :
تأسف أخونا على الشيخ الفاضل ( الفقيه ) ذكرَه في ختام تعقيبه السابق حديثَ : ( من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا ) وعلّلَ أسفه بكونه حديثاً ضعيفاً ؛ مقلداً في التضعيف الحافظ العراقي على ما حكاه في تخريجه على أحاديث كتاب الإحياء ، وسياقُ كلام الأخ كفيلٌ بإظهار مقصده في التقليل من شأن الشيخ ( الفقيه ) بعدما عجز ( عبد العزيز 2) عن الاستدراك عليه في الصلب واللباب ، فكان الواجب على الخائض في النقاش أن يقصر إثباته ونفيه على هذا المحل ولا يصح له الخروج عنه ، وهذا ما حصل منا في ردنا السابق ، أما (عبد العزيز 2 ) فلم يلتزم بمحل النزاع وأصبح يورد اعتراضات خارجة عن محل النزاع مما لا صلة له به ، ولم يكن محلَ خلاف بين المتحاورين مما سأبينه في الرد التفصيلي ، وقد أنبأ ذلك عدم فهم الأخ لفحوى ردنا السابق ومقاصده .
ثانياً : الإجابات العلمية على إشكالات ( عبد العزيز 2 ) :
1- إشكال ( عبد العزيز 2 ) :
(والله كثيرة عليك لو قدرت تفرق بين الجوامع والسنن والمسانيد من الكتب الحديثية. )
إجابة ( أركاني ) على هذا الإشكال :
+الجوامع : جمع جامع ، ويراد به عند المحدّثين : ما يوجد فيه من الحديث جميع الأنواع المحتاج إليها من العقائد والأحكام وما يتعلق بالتفسير والتأريخ والرقائق والآداب والسير والفتن والمناقب والمثالب وغير ذلك ؛ مثل : جامع الأصول لابن الأثير ، وجامع المسانيد لابن كثير ، وجمع الجوامع والجامع الصغير كلاهما للسيوطي ، وكنز العمال للمتقي الهندي وغيرها .
+ أما كتب السنن فالمراد بها عند المحدثين : هي تلك الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة إلى آخرها ؛ وذلك مثل : السنن الأربعة وسنن البيهقي وسنن سعيد بن منصور وغيرها .
+ وأما المسانيد فجمع مُسنَد ، وأطلقه المحدّثون على معنيين :
المعنى الأول : الحديث المُسنَد ويراد به ما اتصل إسناده ، ( ثم اختلفوا في بعض قيوده هذا ليس محل تفصيله ) ، وعلى هذا المعنى أطلق بعض المصنفين على كتابه : مُسنَد ، مثل : ( الجامع الصحيح المُسنَد ) للإمام البخاري ، وكذلك ( مُسند الدارمي ) وغيرهما .
المعنى الثاني : كتب المسانيد وهي التي موضوعها جعلُ حديث كل صحابي على حدة ، مرتبين على حروف الهجاء في أسماء الصحابة أو على القبائل أو السابقة في الإسلام أو الشرافة النسبية أو غير ذلك.
2- إشكال ( عبد العزيز 2 ) :
( أيّ أحكام شرعية سيقت الأحاديث للاستدلال عليها أصالة في المسانيد؟!
أولا- ألا تعلم أيها المتعالم في علم الحديث أن (المسند) من الكتب الحديثية بالمعنى الاصطلاحي هو الكتاب الذي يذكر فيه صاحبه مرويات الصحابة كل على حدة على حسب استقرائه بعيدا عن الوحدة الموضوعية ، من غير ذكر لكتاب أو باب أو عنوان محتوٍ على مسألة شرعية كما هو الحال مع السنن والجوامع. فلذلك تجد في المسند تحت أحاديث أنس مثلا: حديثا في الطهارة وحديثا في الطلاق وحديثا في الجهاد... من غير أي عنوان لها. )
إجابة ( أركاني ) على هذا الإشكال :
لقد أسقط ( عبد العزيز 2 ) اعتراضه هذا حين اعترض على نفسه واستدرك عليها فقال : ( إن كان المقصود بالاستدلال بما في المسانيد مطلقُالاستدلال بكل حديث فيما دل عليه بحسب انتهاضه للاحتجاج به فنعم) ؛ فدل استدراكه على بطلان اعتراضه السابق ، والاعتراف بالحق فضيلة .
ثم إن المقصود من أي اعتراض إسقاط حجة الخصم ، فهل يسقط اعتراض ( عبد العزيز2) إن سلمنا به جدلاً حجتنا التي اعترض عليها ؟
الجواب : لا ؛ 1- لأن اعتراضه على مثال في الدليل لا على أصله ومقصوده، وقد شاع عند العلماء : ( أن النزاع في المثال ليس من شأن الرجال ) ،
2- فإن سقط جدلاً مثال : ( مسند أحمد ) من دليلنا؛ لأنه ليست فيه أحاديث سيقت للاستدلال على الأبواب والتراجم ؛ لأنه مرتب على الصحابة لا على الأبواب فلا تسقط بقية الأمثلة ( السنن الأربعة ومؤطأ الإمام مالك ) .
3- على أنه لا يسقط حتى ( مسند أحمد ) ؛ لأن غرضنا من ذكره هو بيان وجود أحاديث ضعيفة فيه ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو معاند .
فكان حاصل دليلنا : قياس صنيع الشيخ ( الفقيه ) على صنيع ( مسند أحمد والسنن الأربعة والموطأ ) في حكم (وهو عدم استحقاق الذم والأسف ) ؛ بجامع ( وهو ذكر الكل أحاديث ضعيفة ) .
3- إشكال (عبد العزيز 2 ) : (أيّ أحكام شرعية سيقت الأحاديث للاستدلال عليها أصالة في المسانيد؟! ) وقوله الآخر : (وإن كان المراد وضع ترجمة ثم دلالة الحديث عليها فلا.) .
إجابة ( أركاني ) على الإشكال :
لا شك أن من أهم أغراض مؤلّف المسند جمع مرويات كل صحابي على حدة ، لكنه ليس الغرض الوحيد من تأليفه بل لهم أغراض أخرى عداه ، وكذلك لم ترتب أكثر المسانيد على الأبواب ،
لكن إنكارك ونفيك وجودَ مسند مرتب على الأبواب الفقهية ساقطٌ يردُّه :
( صنيعُ الإمام أبي عبد الرحمن بَقي بن مَخْلد الأندلسي القرطبي (ت276هـ) في مُسنَده الذي ليس لأحد مثله ؛ إذ يقول فيه ابن حزم : ( ورتبه على أبواب الفقه ) ، فقد رتبه رحمه الله - على الأبواب داخل مسند كل صحابي ) .
4- إشكال ( عبد العزيز 2 ) :
( ثم ألا تعلم أن الإمام أحمد نفسه ضعف أحاديث أو حكم بنكارتها مما هي موجودة في مسنده ، ولا أريد أن أتعرض هنا للأحاديث التي حكم عليها ابن الجوزي بالوضع ورد ابن حجر عليه لكن أختصر لك الطريق بإرشادك إلى رسالة الدكتور عيسى المسملي (الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد جمعا ودراسة مقارنة) .
ثانيا- ما هذا الانتظار الطويل للأجيال التي تأتي بعد أصحاب الجوامع والسنن والمسانيد لمجرد معرفة حكم الحديث ، لماذا لا تحاول أن تعرف ذلك في بعض الأحاديث من صاحب السنن نفسه مباشرة ، كما هو ديدن بعضهم ، أومن كتب السؤالات ، أو من كتب العلل.
ألا تعلم أيها المتعالم في علم الحديث أن الإمام الترمذي كثيرا ما يحكم على الأحاديث بعد روايتها بالصحة أو بالضعف أو بالنكارة بل يبين ما عليه عمل أهل العلم.
ألا تعلم أن له كتابين في العلل الصغير والكبير يحكم فيها على الأحاديث والرواة ابتداء أو ناقلا عن غيره؟
أما وقفت على إعلال أبي داود لبعض الأحاديث في سننه بنفسه ؟
أما وقفت على إعلال النسائي لبعض الأحاديث في سننه بنفسه بجمع الطرق؟ )
إجابة ( أركاني ) :
هذا الكلام يُعد حشواً من القول ؛ لأنه خارج عن محل النزاع ولا صلة له به ؛ إذ ليس في ردي السابق حرف واحد يدل على أني منكرٌ وجودَ نقد العلماء للروايات وحكمهم عليها بالتصحيح أو التضعيف ، فنقدُ العلماء سواء لمروياتهم أو لمرويات غيرهم أمرٌ معلوم بالضرورة لخواص الطلبة وعوامهم ،
وإنما النزاع السابق والرد على ( عبد العزيز 2) فيه كان على تأسفه سياقَ حديثٍ حَكَم العراقي بضعف سنده فكان الرد عليه بأن صنيعَ الشيخ ( الفقيه ) لم يكن بدعاً من الفعل ولا مجال للتأسف عليه فقد كان في ذلك متبعاً لأهل الحديث ؛ إذ إنهم يروون في مؤلفاتهم كشأن أصحاب السنن الأربعة وغيرهم - أحاديث ضعيفة الأسانيد سواء للاستشهاد أو للاستئناس ، ومع ذلك لم يعب ويتأسف بعضهم على بعض في هذا الصنيع كما تأسف أخونا ( عبد العزيز 2) - مما تدل موافقة الشيخ ( الفقيه ) لأهل الحديث على صحة مسلكه ، وعلى بطلان تأسف ( عبد العزيز 2) وإنكاره ؛ لمخالفته سنة وطريقة ومسلك وعرف أهل التخصص ( أهل الحديث ) .
5- إشكال ( عبد العزيز 2 ) :
قوله : ( اقتباس من كلام المدعو (أركاني)
" من أمثال الإمام الغزالي في الإحياء والرملي في نهاية المحتاج والشربيني في مغني المحتاج والهيتمي في الإفصاح عن أحاديث النكاح وغيرهم "
التعليق :
دي جامدة أوي ، حلوة دي منك يا ولد يا أركاني ، هؤلاء الذين ذكرتهم ليس تخصصهم الحديث ..
وفي الوقت الذي يعتب المدعو (أركاني) على الآخرين النقلَ عن غير المتخصصين إذا هو يحتج بعمل غير المتخصصين في الحديث من أمثال الغزالي ومن ذكرهم. ما هذا التناقض؟ )
إجابة ( أركاني ) :
1- وجه الشاهد من ذكر حجة الإسلام الغزالي ومن معه من العلماء الكرام ( رحمهم الله ) في الرد المعترض عليه - هو أن هؤلاء العلماء مع جلالة قدرهم قد ذكروا هذا الحديث الذي ضُعِّف إسناده في كتبهم المشار إليها ولم يتأسف عليهم أحد بسبب ذكره ، ومن ثَم لم ينفرد شيخنا ( الفقيه ) بذكره ، فلا وجه للتأسف عليه كذلك،
وأما عن كونهم غير متخصصين في الحديث ( مع تحفظي على هذا الحكم خصوصاً في شهاب الدين الرملي الذي عُد مجدد القرن العاشر ) فلا تناقض ؛ إذ لم أنقل عنهم تصحيح الحديث أو تضعيفه أو جرح راوٍ أو تعديله ، وإنما أشرت إلى سياقهم للحديث واستئناسهم به في الترغيب في النكاح والترهيب من تركه ، ولا أظن عامياً فضلاً عن طالب علم يقول : إن الاستدلال بالحديث النبوي والاستئناس بذكره من خصوصيات المتخصصين في علم الحديث ! فأين التناقض ! وهل تحققت النسبة الحكمية للحكم بالتناقض !
2- هذا وقد استعمل ( عبد العزيز 2 ) أكثر من مرة مصطلح ( التناقض ) فهل استعمله بمعناه اللغوي أم بمعناه الاصطلاحي ؟ وبالتأمل لم يكن استعماله لـ ( التناقض ) بأي الاستعمالين لا لغة ولا اصطلاحاً ، لأجل الفائدة للجميع أبين معنيي التناقض لغة واصطلاحاً :
( التناقض ) لغة : تفاعل من النقض وأصله : الحل ثم نُقل إلى الإفساد والإبطال .
أما معناه في الاصطلاح : فالتناقض مصطلح منطقي يراد به عندهم : اختلاف القضيتين في الكيف : أي في الإيجاب والسلب ؛ بحيث يلزم لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى .
ويشترط المناطقة لتحقق التناقض جملة شروط منها : الاتحاد في المحمول، والموضوع، والمكان، والزمان، والقوة والفعل، والجزء والكل، والشرط، والإضافة، والمحققون منهم على الاكتفاء بتحقق وحدة النسبة الحكمية حتى يرد السلب والإيجاب على شيء واحد ؛ فوحدة هذه النسبة تستلزم بقية الوحدات الثمانية.
وبعد هذا البيان لمعنى التناقض وشروطه نسأل : هل تحقق معنى التناقض في ردنا السابق وشروطه أو أنه مجرد دعوى من صاحبنا قد لا يدرك هذا المعنى الاصطلاحي للتناقض الذي ذكرناه ولم يخطر بباله ، وإنما حاله كحال من سمع كلمة فقام يرددها ..!
6- إشكال ( عبد العزيز 2 ) :
( والمدعو (أركاني) معذور لأنه ما عرف الغزالي إلا من خلال كتابيه المستصفى والوجيز. )
إجابة ( أركاني ) :
حكم ( عبد العزيز 2) جازماً بأداة النفي والاستثناء المفيدة للحصر بأني لم أعرف حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله إلا من خلال كتابيه ( المستصفى ) في الأصول و(الوجيز) في الفقه الشافعي ، ولا شك أن هذا الحكم حتى نحكم بصحته يتطلب من الأخ (عبد العزيز 2) إقامة الدليل على صحة مقدمتين :
الأولى : علمه بشخصي ، الثانية : علمه بجهلي بما عدا الكتابين المذكورين للإمام .
لكنه لم يفعل ولن يستطيع فعل ذلك ؛ إذ لم أعرف معرّفه إلا من هذا الموضوع فأنى له بمعرفتي ! فإذا بطلت المقدمة الأولى بطلت الثانية ؛ لأنها متوقفة عليها .
تذييل : ثناء العلماء على الإمام أبي حامد الغزالي :
قال عنه تلميذه الإمام محمد بن يحيى : الغزالي هو الشافعي الثاني .
وقال أسعد الميهني : لا يصل إلى معرفة علم الغزالي وفضله إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله .
وقال عنه الحافظ الذهبي : " حجة الإسلام أعجوبة الزمان صاحب التصانيف والذكاء المفرط "، وقال في العبر : ( وعلى الجملة ما رأى الرجل مثل نفسه ).
وقال عنه ابن كثير : " كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه " .
ووصف بكونه مجدد القرن الخامس .
هذا وقد زادت مؤلفاته على خمس مئة مصنف ، أعرف له فقط في علم الأصول ( المنخول وشفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل وأساس القياس والمستصفى ) وكلها مطبوعة ، وغير المطبوعة ( تهذيب الأصول والمكنون في علم الأصول والمأخذ في الخلافيات ومفصل الخلاف في أصول القياس) ، ومن أراد التعرف على مؤلفات الغزالي الأخرى والاستزادة منها فعليه بكتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي باسم ( مؤلفات الغزالي ) .
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : الإجابات العلمية على إشكالات ( عبد العزيز2) في حديث الديلمي.( الجزء الأول )
|
المصدر : .: ساحة الرأي :.