من أروع صور العفو عن المخالف
إن في قصص العظماء لعبرةً لأولي الألباب, فالجمع بين العلم والعمل هو الصراط المستقيم, والموفق من وفقه الله, هذه ثلاثة مواقف من حياة عالم مشهور عرفه التاريخ, ولا يزال يعرفه الناس يوما بعد يوم, بسعة علمه, وصدره, وعفوه عن المخالف, سواء كان الاختلاف معه في العقيدة التي يسميها بعضنا أصول الدين-, أو في الفروع كالمسائل الفقهية, وما أحوجنا إلى الأول من الثاني, فمدرستنا شديدة, لا ترحم.. تعفو عن الثاني دون الأول, وتكيل الصاع بصاعين, وتُخسِر الميزان.
أ- قال في البداية والنهاية: وقد كان السلطان أعلم بالشيخ ابن تيمية- من جميع الحاضرين ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته, وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه, وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه, وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير, وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا, وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم, وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير, ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء, وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء, وقال له إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم, فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا. فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه, وأنا لا أنتصر لنفسي وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه, وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.
(البداية والنهاية (14/54)).
ب- وفي المنهج الأحمد: ثم امتحن ابن تيمية- سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان؟ فجمع نائبه والقضاة والعلماء بالقصر, وأحضر الشيخ, وسأله عن ذلك, فبعث الشيخ فأحضر من داره العقيدة الواسطية فقرؤوها في ثلاثة مجالس, وحاققوه وبحثوا معه, ووقع الاتفاق بعد ذلك أن هذه عقيدة سنية سلفية, ثم تعصب جماعة من المصريين, وعقدوا له مجلسا آخر, ادُّعي عليه بدعاوى عند ابن مخلوف قاضي المالكية, واستخصم فيه ابن مخلوف القاضي, ولم يوجب عليه ما يوجب التعزير ولا غيره, ثم حُبس هو وأخوه شرف الدين في برج أياما, ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل ودعا الله عليهم, فمنعه الشيخ, وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به.
(انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (605-606)).
ج- يقول ابن القيم: جئت يوماً مبشراً له -أي لابن تيمية- بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له.
(مدارج السالكين (2/345)).
فما أحوج أبناء جيلنا إلى مثل هذه المواقف, والانشغال بما يعود النفع على صاحبه ومجتمعه, بل والأمة أجمع, ما أقصر الحياة, وما أقرب الآخرة من الدنيا..
كتبه: فوزي فطاني
اسم الموضوع : من أروع صور العفو عن المخالف
|
المصدر : .: زاد المسلم :.
