الأسيف
مراقب عام
لذّة الفقر .. ! ( 1 )
كلما أخَذت نسائم الأصيل المونق في قريتي الجميلة تنفحُ جوها العليل بطراوة منعشة ، وتستعد للإعلان عن فجرٍ نديّ .. أشعر بالسكون مرهوب الجلال أنيس الوحشة ..
فأسير إلى دابتي وسيارتي متئد الخطى رزين الخيال مرسل النفس مرهف الحسّ .. فأقف قليلاً على المطلّ الجميل والهضبة السحرية فوق منزلي ، وأنعَمُ هنيهة لأتنسمّ هواء مكة ملء رئتي ، وأمتعُ عيناي بذلك المنظر الفاتن الذي يملك اللب ويسحر الطرف ويأخذ بمجامع القلب ، ولا يجتلي ذلك المنظر المتضوع بالنسيم والملهم بالسكون إلا لنفس سائحة لحارة البلدية .. !
تردني الخواطر إثر الخواطر على ذلك المكان المستنير الصافي من صخب الحيَاة ، حتى تنزل عليّ سكينة الرضا والأمل ، فأنقلبُ شاعراً أتهادى في جمال الكون وحسن العمارة الإنسانية التي تظهر أناقتها وبهاؤها ورقتها لكّل متأملّ ساعة الفجر على مطلّ الجبل .. !
.. ليتني أعلمُ ما مصدر هذا السحر الذي يشعّ ويملأ في عيني ، ويشيع وينتشر في نفسي كلما وقفت على ذلك الطل الرهيب .. ؟!
ثم لا ألبث حتى أودع تلك المناظر مع ما تحمل في جوانبهاَ من ذكريات ، حتى أصلَ إلى باب سيارتي التي يظهر للرائي لها أول مرة كأنها صندوق من حديد مصدّأ مربعيّ الشكل شوهتهُ يدُ الرزايا ، له أربعة مداخل لا تُفتح وإن فتحت لا تُغلق ؛ رُكّب لهُ أربعُ عجلات مطاطية مدورة سود اللون .. !
ثمّ أهزّ البَاب هزاً شديداً حتى يُفتح لي ، وأتأكدّ بعده وجود الماء في ( الكربريتر * ) ، وهل تسرب زيت الفرامل من العلبة ، وما هي وضع أصابع البطارية وهل أصابها ( كربون ) ، وهل نقص الزيت من الماكينة ، وكيف كان وضع البنزين هل اختلط مع الماء أو نقص ! .. فإذا انتهيت منها كلها .. أجد في نفسي سعادة ولذة أنعمُ بهما طوال اليوم ..
ثم آخذ منشفة أبللها بالماء قليلاً أمررهَا على جلد السيارة ، وألتفت حولي أثناءهَا فأجد غيري يبحث عمن لديه سلك ( اشتراك ) ، والآخر يدفع السيارة دفعاً ويبحث عمن يسانده ، والثالث يتفقد ( عفريتة ) ! ليغير بواسطتها عجلته ( المنسّمة ) .. والرابع .. والخامس .. فأحمدُ الله من قلبي على النعمة التي أنا فيها ..
حتى أضع مفتاحي لتشغيل السيارة .. فتصدر أصواتاً توقظ أهل المنزل الذين بجوارهَا ، ولسَان حالي كلسان عمار الخطيب :
إذا شغّلتهَا خنقت صباحاً **** عيالي بالعطاس وبالسعال !
وإن دَار المحركُ خِلتَ حرباً **** ضروساً أشعلت نَار القتال ..
حَرونٌ لا تطيع وإن أطاعت **** فلا تدري يميناً من شمال !
وتغفو في الطريق بغير إذني **** وأبواقٌ تصيحُ ولا تبالي ..
وترتفع الحرارة كل صيفٍ **** فأسقيها زلالاً بالقلال !
وتأبى في الشتاء مسير شبرٍ **** فأضرب بالعقال وبالنعَال ..
وتصرفُ مَا أحوّش من فلوسٍ **** صَروفٌ نافست أم العيَال !
يقول العاذلون : ابتع جديداً **** فقلت : وكيف ؟ والجيب اشتكى لي ..
فهل هناك لذة تضاهي هذه اللذة التي يجد مذاقها الإنسان البسيط على وجه بسيطة المترفين الأغنياء ؟!
إنني أقولها وبصوت جهوري :
أن لا طعم لحيَاة المرء الذي لم يجرب زمن الفاقة والعوز ..
ولا رشفَ خمْر الفقر على مَائدَة الحيَاة ..
ولا شرب كرْمَ السعادة من كأس الدهر ..
وإلا جرّبوا .. فإنهُ لا يعرفُ قيمة الرخَاء إلا من عاش في الشدّة ، ولا لذّة الوجدان إلا من قاسى وجع القلب بالحرمان ..
ولنَا لقاءٌ آخر على مائدة شهيّة .. ولذيذة أخرى من لذائذ الفقر !
* تنويه : ما بين الأقواس ( .. ) مصطلحات لا يفقهها إلا الفقهاء !
اسم الموضوع : لذّة الفقر .. ! ( 1 )
|
المصدر : .: بوح المشاعر :-: خاص بأقلام الأعضاء :.
