صدى الحجاز
مراقب سابق
[align=center][tabletext="width:90%;"][cell="filter:;"][align=center](1)
في ليلة حالكة من ليالي قرية الأحزان نظرت حولي وقد خيم عليها السكون .. فلا أكاد أسمع إلا أنات الأيتام وآهات الأرامل وتثاؤب الغربان وصرير الريح تكنس الشوارع الموحشة، وقد ضرب الفقر بأطنابه فلا يكاد يخلو بيت إلا ودخله، وترك فيه آثاره ..
وجوه شاحبة وأعين دامعة وأبصار زائغة .. تهب الرياح كل مساء لتحمل روائح الفقراء إلى حيث المدن البعيدة الصاخبة بالضجيج فتصطدم بأسوار بيوتها العالية الشامخة في أنفة وكبرياء .. فتذهب وتتلاشى في الفضاء ..
في تلك الليلة غير العادية اجتمع فقراء القرية كالديدان تحت الأرض السابعة، وأعلن كبيرهم افتتاح أعمال مجلس الفقراء في دورته الأولى بعد المليون ..
اشرأبت الأعناق لسماع كلمته الموقرة ..
أيها الفقراء .. لقد طالت غربتنا منذ تشرُّدِنا من ديارنا .. لقد قضينا عقوداً من السنين والأعوام في ملجئنا تحت وطأة الحياة القاسية والليالي الكالحة .. لقد آن لنا أن ننفض عنا غبار الزمن، وأن نتخذ خطوات عملية لنخرج من هذه الحياة الضيقة إلى العالم الفسيح.
تصفيق حاد من الجمهور.
أيها الشعب الفقير .. إلى متى هذا الاختباء؟!.. خيار الانطواء لم يعد مجدياً لحل أزمتنا المزمنة ، ولم يجلب لنا إلا التعاسة والشقاء .. وعلينا منذ الآن ...
قاطعه صوت علا من بين الحشود: لم نعد نرى خياراً ولا حتى كرَّاثاً.
يضج المكان بالضحك، فيأخذ كبير الفقراء حديدة يقرع بها الأرض ليخيم الصمت على المكان من جديد، ويتوجه بالكلام مخاطباً المجلس الأعلى للفقراء، والمنتخب عبر صناديق القمامة.
أصحاب المعالي .. أعضاء المجلس الفقري المنتخب .. بناء على المادة التاسعة والتسعين بعد الألف من دستور هيئة الفقراء .. وبصفتي كبير الشحاذين أقرر اتخاذ قرارٍ مصيري لشعبنا الفقير .. قرارٍ يعيد لنا إنسانيتنا السليبة ..
نهض من بين أعضاء المجلس المنتخب كهل مثل عود الأراك، لا يكاد يُرى من وجهه غير التجاعيد التي رسمها عليه الزمن قائلاً:
حضرة الموقر عظيم الفقراء .. لا نستطيع اتخاذ أي قرار بهذه الخطورة حتى نسمع رأي مجلس الشعب الفقير، فأحيل الكلمة لهم ..
قام حكيمهم العجوز الذي ذاق صنوف الحياة وألوانها قائلاً:
نحن شعب الفقراء .. بل فقراء شعب الفقراء .. لذا نرفع للمجلس ما يلي:
لدينا عدة خيارات .. إما القيام بعمليات انتحارية حتى نلفت إلى قضيتنا أنظار أعضاء مجلس الأغنياء، أو الهجرة الجماعية إلى القبور، أو الانطلاق صفاً واحداً من أجل التغيير.
ضجت الحشود وكثر اللغط وتعالت الصيحات: لقد مللنا الانتظار فلننتحر ولْنُنْهِ هذه المعاناة .. بل الرأي الثاني .. كلا .. نرفض الموت .. بل نريد الرأي الثالث .. وليكن ما يكون ..
كرر زعيم الفقراء القرع بحديدته على الأرض .. وبعد صياح وصراخ استطاع إسكات الجمع الغفير ..
ثم مضى قائلاً:
أيها الشعب الفقير .. أدعو مجلس الفقراء المنتخب لعقد جلسة مغلقة كي يتم حسم القضية، ومن ثم إعلان القرار ..
ارتسمت ابتسامات صفراء على الأوجه الكئيبة المقنَّعَةِ بغبار الأسى محاولة إخفاء معالم البؤس والشقاء تحتها ..
انفض اجتماع أعضاء مجلس الفقراء .. وعادوا للحشود لإعلان القرار الأخير ..
تنحنح المتحدث الرسمي للمجلس ثم ألقى البيان ..
نحن أعضاء مجلس الفقراء .. ممثلوا قرية الأحزان .. يسرنا أن نعلن لشعبنا الفقير ما يلي: بعد مليون اجتماع لم تتمخض عن شيء يُذكر بسبب التشتت وضياع الهوية اللذين كانا عائقين كبيرين أمام خروجنا إلى العالم الفسيح .. نعلن في اجتماعنا الأول بعد المليون وبإجماع المجلس قبولنا بالخيار الثالث .. وهو الانطلاق للتغيير لأجل حياة جديدة .. لقد كبر الصبيان .. واشتدت سواعد الرجال .. أيها الشعب الأبي: لقد آن للكسل أن يُقتل داخل كل ضعيف .. وآن للخمول أن يرحل من ديارنا .. ولتعلُ أصواتنا لتبلغ أسماع مجلس الأغنياء ..
عندها هتف زعيم الفقراء بأعلى صوته : إذن فلننطلق إلى الشارع صفاً واحداً .. ولنهتف بصوت مجلجل يهز الجباااااال .. هيــااااااااااااااااا.
تراصت الصفوف وخرج الفقراء من الأزقة والسراديب كالنمل ينشدون بصوت واحد نشيد الحياة الكريمة .. متجهين صوب المدينة المضيئة ..
(2)
وفي تلك الأثناء نبغت مجموعة من الصعاليك بغتةً على حين غفلة من الشعب، ودعوا لاجتماع طارئ مغلق يضم خواص الخواص من مردة الإنس والمارقين من الشعب، فاجتمعوا في ليلٍ بهيم بقمصان النوم، وخاطبهم كبيرهم قائلاً:
ماذا يظن أعضاء مجلس الشعب أنفسهم حتى يطالبوا الأغنياء بحقهم في الحياة؟!.. ألم تسعهم بيوتهم حتى يخرجوا إلى الشوراع ويُخْرِجُوا معهم الطغام والعوام والدهماء والسوقة ؟!.. أيرون أنفسهم أكفاء لمخاطبة الأغنياء؟!..
نهض أحدهم صارخاً: ألسنا أولى بمقدمة الصف من هؤلاء السفهاء ؟!.. أينطلقون بشعبنا على مرأى منا ومسمع؟!..
نهض آخر قائلاً:
علينا أولاً التصدي لهذه المسيرة والوقوف أمامهم ثم نرى ما يجب علينا فعله ..
واستمرت المسيرة الشعبية نحو المدينة المضيئة حتى وقفوا على أبواب بيوت أعضاء مجلس الأغنياء .. فخرجوا مرحبين ومباركين .. وأصغوا إليهم لسماع هتافهم ونشيدهم .. فإذا عشرات الهتافات والأناشيد تصدح بها مئات الألسن في آن واحد معاً بعد أن كانوا قد انطلقوا بصوت واحد في البداية ..
اختلطت أصوات المطالبين بحقوقهم وعم المكان الفوضى .. فلم يفهم الأغنياء منها شيئاً.. فأداروا ظهورهم وأقفلوا أبوابهم بعد أن دخلوا قصورهم ..
فما كان من الفقراء إلا أن عادوا أدراجهم يجرون وراءهم أذيال الفشل، ويتجرعون مرارة الخيبة، وفي اليوم التالي عقدوا الاجتماع الثاني بعد المليون.[/align][/cell][/tabletext][/align]
في ليلة حالكة من ليالي قرية الأحزان نظرت حولي وقد خيم عليها السكون .. فلا أكاد أسمع إلا أنات الأيتام وآهات الأرامل وتثاؤب الغربان وصرير الريح تكنس الشوارع الموحشة، وقد ضرب الفقر بأطنابه فلا يكاد يخلو بيت إلا ودخله، وترك فيه آثاره ..
وجوه شاحبة وأعين دامعة وأبصار زائغة .. تهب الرياح كل مساء لتحمل روائح الفقراء إلى حيث المدن البعيدة الصاخبة بالضجيج فتصطدم بأسوار بيوتها العالية الشامخة في أنفة وكبرياء .. فتذهب وتتلاشى في الفضاء ..
في تلك الليلة غير العادية اجتمع فقراء القرية كالديدان تحت الأرض السابعة، وأعلن كبيرهم افتتاح أعمال مجلس الفقراء في دورته الأولى بعد المليون ..
اشرأبت الأعناق لسماع كلمته الموقرة ..
أيها الفقراء .. لقد طالت غربتنا منذ تشرُّدِنا من ديارنا .. لقد قضينا عقوداً من السنين والأعوام في ملجئنا تحت وطأة الحياة القاسية والليالي الكالحة .. لقد آن لنا أن ننفض عنا غبار الزمن، وأن نتخذ خطوات عملية لنخرج من هذه الحياة الضيقة إلى العالم الفسيح.
تصفيق حاد من الجمهور.
أيها الشعب الفقير .. إلى متى هذا الاختباء؟!.. خيار الانطواء لم يعد مجدياً لحل أزمتنا المزمنة ، ولم يجلب لنا إلا التعاسة والشقاء .. وعلينا منذ الآن ...
قاطعه صوت علا من بين الحشود: لم نعد نرى خياراً ولا حتى كرَّاثاً.
يضج المكان بالضحك، فيأخذ كبير الفقراء حديدة يقرع بها الأرض ليخيم الصمت على المكان من جديد، ويتوجه بالكلام مخاطباً المجلس الأعلى للفقراء، والمنتخب عبر صناديق القمامة.
أصحاب المعالي .. أعضاء المجلس الفقري المنتخب .. بناء على المادة التاسعة والتسعين بعد الألف من دستور هيئة الفقراء .. وبصفتي كبير الشحاذين أقرر اتخاذ قرارٍ مصيري لشعبنا الفقير .. قرارٍ يعيد لنا إنسانيتنا السليبة ..
نهض من بين أعضاء المجلس المنتخب كهل مثل عود الأراك، لا يكاد يُرى من وجهه غير التجاعيد التي رسمها عليه الزمن قائلاً:
حضرة الموقر عظيم الفقراء .. لا نستطيع اتخاذ أي قرار بهذه الخطورة حتى نسمع رأي مجلس الشعب الفقير، فأحيل الكلمة لهم ..
قام حكيمهم العجوز الذي ذاق صنوف الحياة وألوانها قائلاً:
نحن شعب الفقراء .. بل فقراء شعب الفقراء .. لذا نرفع للمجلس ما يلي:
لدينا عدة خيارات .. إما القيام بعمليات انتحارية حتى نلفت إلى قضيتنا أنظار أعضاء مجلس الأغنياء، أو الهجرة الجماعية إلى القبور، أو الانطلاق صفاً واحداً من أجل التغيير.
ضجت الحشود وكثر اللغط وتعالت الصيحات: لقد مللنا الانتظار فلننتحر ولْنُنْهِ هذه المعاناة .. بل الرأي الثاني .. كلا .. نرفض الموت .. بل نريد الرأي الثالث .. وليكن ما يكون ..
كرر زعيم الفقراء القرع بحديدته على الأرض .. وبعد صياح وصراخ استطاع إسكات الجمع الغفير ..
ثم مضى قائلاً:
أيها الشعب الفقير .. أدعو مجلس الفقراء المنتخب لعقد جلسة مغلقة كي يتم حسم القضية، ومن ثم إعلان القرار ..
ارتسمت ابتسامات صفراء على الأوجه الكئيبة المقنَّعَةِ بغبار الأسى محاولة إخفاء معالم البؤس والشقاء تحتها ..
انفض اجتماع أعضاء مجلس الفقراء .. وعادوا للحشود لإعلان القرار الأخير ..
تنحنح المتحدث الرسمي للمجلس ثم ألقى البيان ..
نحن أعضاء مجلس الفقراء .. ممثلوا قرية الأحزان .. يسرنا أن نعلن لشعبنا الفقير ما يلي: بعد مليون اجتماع لم تتمخض عن شيء يُذكر بسبب التشتت وضياع الهوية اللذين كانا عائقين كبيرين أمام خروجنا إلى العالم الفسيح .. نعلن في اجتماعنا الأول بعد المليون وبإجماع المجلس قبولنا بالخيار الثالث .. وهو الانطلاق للتغيير لأجل حياة جديدة .. لقد كبر الصبيان .. واشتدت سواعد الرجال .. أيها الشعب الأبي: لقد آن للكسل أن يُقتل داخل كل ضعيف .. وآن للخمول أن يرحل من ديارنا .. ولتعلُ أصواتنا لتبلغ أسماع مجلس الأغنياء ..
عندها هتف زعيم الفقراء بأعلى صوته : إذن فلننطلق إلى الشارع صفاً واحداً .. ولنهتف بصوت مجلجل يهز الجباااااال .. هيــااااااااااااااااا.
تراصت الصفوف وخرج الفقراء من الأزقة والسراديب كالنمل ينشدون بصوت واحد نشيد الحياة الكريمة .. متجهين صوب المدينة المضيئة ..
(2)
وفي تلك الأثناء نبغت مجموعة من الصعاليك بغتةً على حين غفلة من الشعب، ودعوا لاجتماع طارئ مغلق يضم خواص الخواص من مردة الإنس والمارقين من الشعب، فاجتمعوا في ليلٍ بهيم بقمصان النوم، وخاطبهم كبيرهم قائلاً:
ماذا يظن أعضاء مجلس الشعب أنفسهم حتى يطالبوا الأغنياء بحقهم في الحياة؟!.. ألم تسعهم بيوتهم حتى يخرجوا إلى الشوراع ويُخْرِجُوا معهم الطغام والعوام والدهماء والسوقة ؟!.. أيرون أنفسهم أكفاء لمخاطبة الأغنياء؟!..
نهض أحدهم صارخاً: ألسنا أولى بمقدمة الصف من هؤلاء السفهاء ؟!.. أينطلقون بشعبنا على مرأى منا ومسمع؟!..
نهض آخر قائلاً:
علينا أولاً التصدي لهذه المسيرة والوقوف أمامهم ثم نرى ما يجب علينا فعله ..
واستمرت المسيرة الشعبية نحو المدينة المضيئة حتى وقفوا على أبواب بيوت أعضاء مجلس الأغنياء .. فخرجوا مرحبين ومباركين .. وأصغوا إليهم لسماع هتافهم ونشيدهم .. فإذا عشرات الهتافات والأناشيد تصدح بها مئات الألسن في آن واحد معاً بعد أن كانوا قد انطلقوا بصوت واحد في البداية ..
اختلطت أصوات المطالبين بحقوقهم وعم المكان الفوضى .. فلم يفهم الأغنياء منها شيئاً.. فأداروا ظهورهم وأقفلوا أبوابهم بعد أن دخلوا قصورهم ..
فما كان من الفقراء إلا أن عادوا أدراجهم يجرون وراءهم أذيال الفشل، ويتجرعون مرارة الخيبة، وفي اليوم التالي عقدوا الاجتماع الثاني بعد المليون.[/align][/cell][/tabletext][/align]
اسم الموضوع : اجتماع أعضاء مجلس الفقراء
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.