قالت لي ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز ربيعها الخامس ونحن نسير بالسيارة: بابا زواج من هذا؟ وأشارت إلى جانب شارع فرعي قد أُضيء بشمعتين كبيرتين ومُدّ عدد من عقود المصابيح الحمراء على جانبي المكان ورُصّت الكراسي الحمراء بطريقة فنية، وهناك عدد لا بأس به من المضيفين يباشرون الضيافة بالقهوة والتمر على الحضور فقلت لابنتي: هذا ليس بحفل زواج يا ابنتي وإنما هو عزاء جارنا فلان الذي توفي البارحة فقالت بفطرتها وبراءتها: هل أقاموا هذا الاحتفال لأنه قد مات؟! قلت: كلا وإنما أعدّوا هذا المكان لاستقبال المعزين الذين قدموا لتقديم واجب العزاء ! قالت بهدوء وبراءة وقد غيّرت من ملامح وجهها الطفولي وأنا أنظر إليها من مرآة السيارة: أنا لا أصدق ذلك هذا زواج جيراننا وليس بعزاء !!
انتهى هذا المشهد الحواري بعد أن استنفذت كل محاولاتي لكي أقنعتها بأن ما شاهدْته إنما هي جلسة عزاء، وليس جلسة فرح وزواج، ولا أدري إلى الآن هل اقتنعت أم لا زالت مؤمنة بأن ما شاهدته حفل زواج شعبي !! في ذات هذا الأسبوع توفي والد أحد زملائي فذهبت إلى مكان العزاء وقد تأخرت قليلاً عن الموعد الرسمي المحدد للعزاء وهو ما بين العشائين فأتيت بعد صلاة العشاء بقليل وما كدت أقترب من مكان "الحفل" عفواً "العزاء" إلا وتذكرت مباشرة كلام صغيرتي ورأيت عجباً والله، شاهدت ساحة كبيرة على مد البصر زينت جوانبها بالأنوار وفرش المكان بالبسط المزركشة والكراسي الحمراء وبجوار هذا المكان ساحة كبيرة جداً أعدت للطعام والشراب ولزوم " الفرفشة" و "الحنك" و "التنكيت" و "التدخين" و "السهر" ونظراً لتأخري في المجيء كان الوقت وقت وضع السفر؛ فوجدت في نفسي حرجاً عظيماً لأني أعتقد أن هذا الطعام مشبوه شرعاً ولأن وقت "السُّفر" وقت لا يفضل ابن اللذينا أن يحل فيه ضيفاً على أحد بأي صورة كانت، تسللت إلى المكان والناس بين جالس على "سفرة" وبين ذاهب بـ"سفرة" وبين طالب لـ "سفرة" وأخذت أبحث عن زميلي لكي أعزيه وأنصرف فوالله لم أستطع أن أصل إليه إلا بشق الأنفس تستغربون أنه قد شمر عن ساعديه ورفع ثوبه إلى وسطه وحسر عن رأسه كأنه في معركة لا في عزاء وأخذ ينقل "التباسي" و "السلطات" و "الإسعافات" والساحة اكتظت بأعداد غفيرة تشبه أعداد المناسبات الاحتفالية لا أدري أقول بالمعزين أم بالفضوليين أم المساكين والجوعى ونظرت إلى الجالسين فإذا هم في نعيم مقيم، أكل وشرب وضحك وكأنهم في حفل معايدة وأهل الميت يقومون بخدمتهم ورعاية شؤونهم ويذهبون ويجيئون في إسعادهم بما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات، ألقيت بنظري إلى زاوية من المكان فرأيت القدور الضخمة والصحون المستديرة والمشروبات بأنواعها تضايقت جداً من هذا الوضع الذي وصل إليه العزاء وهي عبادة من العبادات وضقت ذرعاً بما شاهدته من مشاهد لا تسر الخاطر يصعب أن تضعها في خانة العزاء وقلت في نفسي: لماذا لا يفكر أهل الميت من باب الخدمة أيضاً للمعزين ومن باب "تغيير الجو" أن يأخذوا جميع المعزين في رحلة إلى شرم الشيخ أو شواطئ أمالفي أو جزر المالديف لكي تكتمل الفرحة وتتصل "الفَلّة" وتساءلت في نفسي: لماذا لا يستأجرون قاعات الزواج ليقيموا مناسبات العزاء بدلاً من أطراف الشوارع والأزقة تسهيلاً لعباد الله المعزين ؟! ولماذا لا يفكرون في الإتيان بعريس "مغلوب على أمره" ويوقفونه عند مدخل العزاء مع "صف العزا" ليوفر هذا العريس جميع مصاريف وليمة الزواج ؟! هذا ما يحصل في عزاءاتنا هذه الأيام للأسف، كيف وصلنا إلى هذا المستوى؟! وإلى أين نحن ذاهبون ؟! الله أعلم.
اسم الموضوع : حفلة عزاء خمسة نجوم .. ناقص العريس والطقاقة
|
المصدر : .: ساحة الرأي :.
