صدى الحجاز
مراقب سابق
(1)
تجاوزات الهيئة
بعد أن قضى نهاره في غطيط وشخير كعادته كل يوم، خرج سعادته في ذلك المساء التعيس يستقبل يومه الجديد، فهو يؤمن بِقِدَمِ الليل على النهار، ولذلك يبدأ به يومه .. خرج يروِّح عن نفسه الكئيبة ما تراكمت عليها من قذارات مظاهر التخلف المنتشرة في المجتمع في شتى جوانب الحياة .. سمع صوت غمغمة وقرقرة يصدر من بطنه لفرط جوعه، إذ لم يدخل إلى جوفه طعامٌ منذ النهار، فاتجه صوب مطعمٍ عله أن يصيب شيئا يشبع به نهمه ، وكم شعر بـ (ـالقرف) حينما اضطر لأخذ حاجته من تلك الأيادي الخشنة..
يا للقرف .. أليست النساء أولى بالطبخ وتقديم الوجبات؟!..
ألسن أمهر من الرجال في التفنن في أنواع الطعام؟!..
أليست أصواتهن الأنثوية الناعمة تضفي على الطعام مزيداً من المذاق والعذوبة؟!!..
فما بال الرجال قد احتكروا هذه المهنة لأنفسهم دونهن؟!..
آه على دنيا التخلف والجهل..
جلس حضرته إلى طاولة ودارت رحى حرب ضروس بين الملاعق والأشواك ..
ثم خرج مترنحاً تسبقه كرشته إلى مجمع تجاري يقضي فيه ساعات فراغه بين أروقته ومحلاته، فقد كان سعادته كثيراً ما يتفقد أحوال الناس ويهتم بأمورهم حرصاً منه على معرفة كل ما دق وجل، وكم شعر بالاختناق من رؤية تلك الخيام السوداء الملقاة على رؤوس وعواتق - النساء - المخدَّرات اللاتي فُرِضَ عليهن أن يَظْلَلْنَ حبيساتِها .. ما أقبح تلك العنصرية البغيضة والتمييز المقيت، وما أجبنهن إذ رضين بذلك الظلم الواقع عليهن.
(2)
لم يتحمل سعادته تلك المناظر البشعة الموغلة في التخلف والرجعية فاتجه رأساً إلى الباب يريد الخروج، وهناك كاد يصعقُ من صوت ينبعث من مكبِّراتِ مئذنةِ مسجدٍ قريبٍ معلناً عن دخول وقت صلاة العشاء، حيث جن جنونه وانتفخت عيناه حتى كادتا أن تُقذفا من محجريهما، فهرع نحو سيارته وله خوار !!..
أسرع بسيارته مبتعداً عن المسجد وقلبه يغلي غيظاً وكمداً..
ألهذه الدرجة يُهْدَرُ حق المواطن في الراحة دون إزعاج؟!!.
أليس للمواطن حق العيش بهدوء دون أن تعكر حياته أصوات تلك المكبِّرات المزعجة؟!!..
التفت يمنة ويسرة فإذا أبواب المحلات تُشرع في إغلاقها، وإذا الكبار والصغار يتجهون إلى حيث انطلق منه النداء في سكينة ووقار!!..
يا للمصيبة .. إذا استمر التجار في إغلاق محلاتهم لنصف ساعة أو لساعة إلا ربعاً كلما سمعوا النداء فكم ساعة ستتعطل حركة التجارة كل يوم، بل كل أسبوع وشهر وسنة؟!!..
إنها قمة المهزلة .. أليس هذا ضرباً للاقتصاد في مقتل؟!..
آه ثم آه .. إلى متى يظل بلدنا يستمر في السير إلى الوراء مصطدما في طريقه كل حضارة وتطور ..
(3)
وبينما كان سعادته يتجرع مرارة التخلف الذي تعيشه بلاده دون أن يتمكن من إنقاذها مما تردت فيه من تخلف وانحطاط، إذ شعر بغصة شديدة في بطنه تزداد شيئاً فشيئاً، لا يدري سببها، فربما كانت من الأكلة التي قدمتها في ذلك البوفيه تلك الأيادي الخشنة، وربما من العنصرية البغيضة التي رآها في المجمع التجاري، بل ربما من الصعقة التي أصابه بها ذلك النداء أثناء خروجه من السوق فأثر في معدته، وكم هو مؤلم أن يعيش الإنسان وسط تلك الأدواء ويتجرع مرارة التخلف في أكبر بلد يصدر البترول للعالم، بل كم هو مؤلم أن توضع كل تلك الحواجز دون الحضارة بدعوى الحفاظ على العادات والتقاليد.
اتجه إلى أحد المستشفيات القريبة لتشخيص مرضه وأخذ العلاج اللازم له، وهناك ازدادت حالته سوءاً والداءُ حِدَّةً واستعصاءً.
ما هذا؟ أين الطبيب الذي سيعالجني؟!..
أُفٍّ لهذا التخلف .. أليس في قمة الوقاحة أن يذهب الطبيب إلى مصلى المستشفى ويترك المرضى ينتظرونه في صالات الانتظار دون أن تحرك إدارة المستشفى ساكناً لمعالجة هذه الظاهرة السلبية؟!..
باءت بالفشل جميعُ محاولاتِ سعادته مع موظف الاستقبال لاستدعاء الطبيب من المصلى، فلم يكن بد من الانتظار وهو يغلي قهراً ويكاد يموت كمداً من الوضع المزري، وهناك ارتفع ضغطه حينما رأى المشهد الشنيع للعنصرية والتمييز ضد المرأة يتكرر في المستشفى، فصالة انتظار الرجال منفصلة تماماً عن صالة انتظار النساء، أُفٍّ لهذا التشدد والتزمت.
هل يسع المرضى أن ينسوا أمراضهم وينشغلوا بالغزل والتحرش حتى توضع كل هذه الحواجز بين الجنسين؟!..
أليس في ذلك اتهامٌ مُبَطَّنٌ للجميع بأنهم شهوانيون لا ينظرون إلى المرأة إلا بشهوة، ولا يفكرون فيها إلا بشهوة؟!..
أليس الإسلام يأمر باجتناب كثيرٍ من الظن، لأن بعض الظن إثم؟!..
بعد طول انتظار جاء دوره ليكشف عليه الطبيب الذي استقبله بكل حفاوة وتقدير لكبر سنه دون أن يعلم أن مريضه قد هرم منه كل شيء إلا لسانه الذي لم يزده تقدم العمر إلا طولاً حتى غدا أطول من لسان الحرباء، فأسمعه من الشتائم والسباب ما أخرجه عن طور صاحب السعادة والمعالي، وكان له الحق في ذلك، إذ لم يكن في تلك اللحظة سوى صاحب تعاسة ونكد وبلاء، لكن الطبيب قد عذره نظراً لحالته النفسية السيئة التي يمر بها، ونصحه بالبقاء في برجه العاجي والبعد عن الاحتكاك بالطغام والعوام والدهماء والسوقة والغوغائية من الناس.
(4)
خرج حضرة صاحب السعادة من المستشفى متجها إلى البحر لقضاء فترة نقاهة بسيطة على شاطئه.
وإذ تطأ قدماه أرض الشاطئ ويلتفت يمنة ويسرة حيث تجلس العائلات متفرقات، إذا بأكياس سوداء مثل أكياس القمامة متناثرة هنا وهناك، وفي داخل كل كيس امرأة محبوسة.
آه ما أشد سوادك أيها الليل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي * * * بصبح وما الإصباح منك بأمثل
يا من رضيتن بالذل والمهانة، أَتَظْلَلْنَ في حَبْسِكُنَّ حتى عند شواطئ البحار وأماكن الترفيه والتسلية؟!..
هلاَّ جلستن في بيوتكن بدلا من تشويه منظر الشاطئ الجميل بهذه المظاهر البشعة في منتهى التخلف والرجعية.
يا للعار ..
وكم شعر سعادته بالألم والخجل وهو يتخيل سياحاً أوروبيين يرون مثل هذه الفضائح في بلاده.
(5)
وبينما هو في محاضرته الصماء وقد انقبض قلبه واسودت الدنيا أمام ناظريه وهو يرى وطنه يئن تحت وطأة التخلف، ويُساق إلى الوراء للعودة به إلى ما قبل التاريخ بدعوى التدين والمحافظة، إذا بفتاتين في ربيع العمر قد أقبلتا تتضاحكان بكل وقاحة وخبث، وقد انخلعتا من كل حشمة وأدب، فانفرجت أسارير وجهه وتهلل فرحاً، وتسارعت خفقات قلبه، كمسافر في كبد الصحراء قد أبصر ماءً بعد أن أعياه التعب واستسلم للموت ..
لا أصدق .. لا أصدق .. هل أنا في حلمٍ جميل أم حقيقة؟!..
أحقاً ما أرى؟!.. هل فعلاً بدأت بوادر الانفتاح تلوح في الأفق؟!..
هل حان الوقت لكي نقذف بالتزمت والتشدد والتخلف في سلة الماضي لتنمحي من أذهاننا ولتكون في منأى عن الأجيال القادمة؟!..
هل فعلاً سنستقبل تاريخاً جديداً مليئاً بالتقدم والتطور؟!..
وزال عن قلبه كل ما تراكم عليه من غبار التخلف ومظاهره.
ووجد نفسه دون شعورٍ يتقدم بخطى ثابتة نحو تلك الفتاتين، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة في شفتيه، فلا شك أنهما تبحثان عن مثله.
حانت منهما التفاتة إلى سعادته لينتهزها فرصة للتلويح لهما بيده الكريمة، فلم تترددا في الاستجابة لإشارته.
لم يستغرق طويل وقت ليتعارفوا، ولتلبيا دعوته لضيافتهما، فانطلقتا معه بسيارته الفارهة إلى شقته المفروشة في ذلك الفندق الفخم، وبينما هو في طريقه يحدوه الأمل في قضاء سهرة ممتعة معهما، إذا بسيارة من نوع الجمس تقوم بإجبارهم على الوقوف بمنتهى الوقاحة وقلة الذوق ودون أدنى احترام وتقدير لمشاعر سعادته، ونزل منها شخصان ملتحيان قصيرا الثوب، وطلبا منه النزول، ولم يكد ينزل من سيارته مغضباً من هؤلاء (الملاقيف) حتى قبضا عليه بأيديهما الغليظة، ففقد حضرة صاحب السعادة هدوءه وأطلق العنان للسانه يقذف بما تعود عليه من أنواع الشتائم والسباب، ونسي مرة أخرى أنه صاحب سعادة أو معالي، وبنظرة واحدة إلى الشعار الموجود على زجاج الجمس تجمد الدم في عروقه، إذ لم يكن ذلك الشعار غريباً عليه، حيث أدرك أنه في قبضة رجال الهيئة الذين طالما ألَّف فيهم السيناريوهات والقصص البوليسية والوحشية، وجعل منهم أعداءً للحضارة والتقدم، وكم تمنى أن لو كان بإمكانه محوهم من الوجود، فحاول المقاومة بكل ما أوتي من قوة للانفلات من براثنهما واستعرض أمامهما جميع فنون القتال ومهارات الدفاع عن النفس، فقد كان همه الأكبر الانتصار الساحق عليهما أمام ضيفتيه اللتين تشهدان المعركة الطاحنة وتستعجلان النتيجة الحاسمة، إلا أن كل تلك الجهود ذهبت سدى، إذ تم إحكام القبض عليه، فبدأ يلقي عليهم خطبة مجلجلة عن التشدد وآثاره السيئة على الأمة وعواقبه الوخيمة وانتهاكهم للأعراض .. وبكل هدوء وصمت مطبقين لائقين بحضرته سيق رغم أنفه إلى صندوق صالون الهيئة (الجمس) يكمل خطبته هناك، ليكتشف مؤخراً أن أحلامه الوردية الجميلة قد انقلبت كابوساً مزعجاً.
وفي اليوم التالي قرأ الناس مع قهوة الصباح خبراً نشر في الصحف عن اعتداء بعض أعضاء الهيئة على رجل بريء جالس على الشاطئ، في محاولة منهم لإسقاط اعتباره بعد أن تم اتهامه كذباً وزوراًُ وبهتاناً بأنه ضُبط متلبساً بخلوة مع فتاتين، وأن أعضاء الهيئة في حاجة إلى إعادة تأهيل ودورات في التعامل مع الناس نظراً لكثرة تجاوزاتهم وانتهاكهم لأعراض الناس دون مبرر شرعي أو نظامي...إلخ.
تجاوزات الهيئة
بعد أن قضى نهاره في غطيط وشخير كعادته كل يوم، خرج سعادته في ذلك المساء التعيس يستقبل يومه الجديد، فهو يؤمن بِقِدَمِ الليل على النهار، ولذلك يبدأ به يومه .. خرج يروِّح عن نفسه الكئيبة ما تراكمت عليها من قذارات مظاهر التخلف المنتشرة في المجتمع في شتى جوانب الحياة .. سمع صوت غمغمة وقرقرة يصدر من بطنه لفرط جوعه، إذ لم يدخل إلى جوفه طعامٌ منذ النهار، فاتجه صوب مطعمٍ عله أن يصيب شيئا يشبع به نهمه ، وكم شعر بـ (ـالقرف) حينما اضطر لأخذ حاجته من تلك الأيادي الخشنة..
يا للقرف .. أليست النساء أولى بالطبخ وتقديم الوجبات؟!..
ألسن أمهر من الرجال في التفنن في أنواع الطعام؟!..
أليست أصواتهن الأنثوية الناعمة تضفي على الطعام مزيداً من المذاق والعذوبة؟!!..
فما بال الرجال قد احتكروا هذه المهنة لأنفسهم دونهن؟!..
آه على دنيا التخلف والجهل..
جلس حضرته إلى طاولة ودارت رحى حرب ضروس بين الملاعق والأشواك ..
ثم خرج مترنحاً تسبقه كرشته إلى مجمع تجاري يقضي فيه ساعات فراغه بين أروقته ومحلاته، فقد كان سعادته كثيراً ما يتفقد أحوال الناس ويهتم بأمورهم حرصاً منه على معرفة كل ما دق وجل، وكم شعر بالاختناق من رؤية تلك الخيام السوداء الملقاة على رؤوس وعواتق - النساء - المخدَّرات اللاتي فُرِضَ عليهن أن يَظْلَلْنَ حبيساتِها .. ما أقبح تلك العنصرية البغيضة والتمييز المقيت، وما أجبنهن إذ رضين بذلك الظلم الواقع عليهن.
(2)
لم يتحمل سعادته تلك المناظر البشعة الموغلة في التخلف والرجعية فاتجه رأساً إلى الباب يريد الخروج، وهناك كاد يصعقُ من صوت ينبعث من مكبِّراتِ مئذنةِ مسجدٍ قريبٍ معلناً عن دخول وقت صلاة العشاء، حيث جن جنونه وانتفخت عيناه حتى كادتا أن تُقذفا من محجريهما، فهرع نحو سيارته وله خوار !!..
أسرع بسيارته مبتعداً عن المسجد وقلبه يغلي غيظاً وكمداً..
ألهذه الدرجة يُهْدَرُ حق المواطن في الراحة دون إزعاج؟!!.
أليس للمواطن حق العيش بهدوء دون أن تعكر حياته أصوات تلك المكبِّرات المزعجة؟!!..
التفت يمنة ويسرة فإذا أبواب المحلات تُشرع في إغلاقها، وإذا الكبار والصغار يتجهون إلى حيث انطلق منه النداء في سكينة ووقار!!..
يا للمصيبة .. إذا استمر التجار في إغلاق محلاتهم لنصف ساعة أو لساعة إلا ربعاً كلما سمعوا النداء فكم ساعة ستتعطل حركة التجارة كل يوم، بل كل أسبوع وشهر وسنة؟!!..
إنها قمة المهزلة .. أليس هذا ضرباً للاقتصاد في مقتل؟!..
آه ثم آه .. إلى متى يظل بلدنا يستمر في السير إلى الوراء مصطدما في طريقه كل حضارة وتطور ..
(3)
وبينما كان سعادته يتجرع مرارة التخلف الذي تعيشه بلاده دون أن يتمكن من إنقاذها مما تردت فيه من تخلف وانحطاط، إذ شعر بغصة شديدة في بطنه تزداد شيئاً فشيئاً، لا يدري سببها، فربما كانت من الأكلة التي قدمتها في ذلك البوفيه تلك الأيادي الخشنة، وربما من العنصرية البغيضة التي رآها في المجمع التجاري، بل ربما من الصعقة التي أصابه بها ذلك النداء أثناء خروجه من السوق فأثر في معدته، وكم هو مؤلم أن يعيش الإنسان وسط تلك الأدواء ويتجرع مرارة التخلف في أكبر بلد يصدر البترول للعالم، بل كم هو مؤلم أن توضع كل تلك الحواجز دون الحضارة بدعوى الحفاظ على العادات والتقاليد.
اتجه إلى أحد المستشفيات القريبة لتشخيص مرضه وأخذ العلاج اللازم له، وهناك ازدادت حالته سوءاً والداءُ حِدَّةً واستعصاءً.
ما هذا؟ أين الطبيب الذي سيعالجني؟!..
أُفٍّ لهذا التخلف .. أليس في قمة الوقاحة أن يذهب الطبيب إلى مصلى المستشفى ويترك المرضى ينتظرونه في صالات الانتظار دون أن تحرك إدارة المستشفى ساكناً لمعالجة هذه الظاهرة السلبية؟!..
باءت بالفشل جميعُ محاولاتِ سعادته مع موظف الاستقبال لاستدعاء الطبيب من المصلى، فلم يكن بد من الانتظار وهو يغلي قهراً ويكاد يموت كمداً من الوضع المزري، وهناك ارتفع ضغطه حينما رأى المشهد الشنيع للعنصرية والتمييز ضد المرأة يتكرر في المستشفى، فصالة انتظار الرجال منفصلة تماماً عن صالة انتظار النساء، أُفٍّ لهذا التشدد والتزمت.
هل يسع المرضى أن ينسوا أمراضهم وينشغلوا بالغزل والتحرش حتى توضع كل هذه الحواجز بين الجنسين؟!..
أليس في ذلك اتهامٌ مُبَطَّنٌ للجميع بأنهم شهوانيون لا ينظرون إلى المرأة إلا بشهوة، ولا يفكرون فيها إلا بشهوة؟!..
أليس الإسلام يأمر باجتناب كثيرٍ من الظن، لأن بعض الظن إثم؟!..
بعد طول انتظار جاء دوره ليكشف عليه الطبيب الذي استقبله بكل حفاوة وتقدير لكبر سنه دون أن يعلم أن مريضه قد هرم منه كل شيء إلا لسانه الذي لم يزده تقدم العمر إلا طولاً حتى غدا أطول من لسان الحرباء، فأسمعه من الشتائم والسباب ما أخرجه عن طور صاحب السعادة والمعالي، وكان له الحق في ذلك، إذ لم يكن في تلك اللحظة سوى صاحب تعاسة ونكد وبلاء، لكن الطبيب قد عذره نظراً لحالته النفسية السيئة التي يمر بها، ونصحه بالبقاء في برجه العاجي والبعد عن الاحتكاك بالطغام والعوام والدهماء والسوقة والغوغائية من الناس.
(4)
خرج حضرة صاحب السعادة من المستشفى متجها إلى البحر لقضاء فترة نقاهة بسيطة على شاطئه.
وإذ تطأ قدماه أرض الشاطئ ويلتفت يمنة ويسرة حيث تجلس العائلات متفرقات، إذا بأكياس سوداء مثل أكياس القمامة متناثرة هنا وهناك، وفي داخل كل كيس امرأة محبوسة.
آه ما أشد سوادك أيها الليل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي * * * بصبح وما الإصباح منك بأمثل
يا من رضيتن بالذل والمهانة، أَتَظْلَلْنَ في حَبْسِكُنَّ حتى عند شواطئ البحار وأماكن الترفيه والتسلية؟!..
هلاَّ جلستن في بيوتكن بدلا من تشويه منظر الشاطئ الجميل بهذه المظاهر البشعة في منتهى التخلف والرجعية.
يا للعار ..
وكم شعر سعادته بالألم والخجل وهو يتخيل سياحاً أوروبيين يرون مثل هذه الفضائح في بلاده.
(5)
وبينما هو في محاضرته الصماء وقد انقبض قلبه واسودت الدنيا أمام ناظريه وهو يرى وطنه يئن تحت وطأة التخلف، ويُساق إلى الوراء للعودة به إلى ما قبل التاريخ بدعوى التدين والمحافظة، إذا بفتاتين في ربيع العمر قد أقبلتا تتضاحكان بكل وقاحة وخبث، وقد انخلعتا من كل حشمة وأدب، فانفرجت أسارير وجهه وتهلل فرحاً، وتسارعت خفقات قلبه، كمسافر في كبد الصحراء قد أبصر ماءً بعد أن أعياه التعب واستسلم للموت ..
لا أصدق .. لا أصدق .. هل أنا في حلمٍ جميل أم حقيقة؟!..
أحقاً ما أرى؟!.. هل فعلاً بدأت بوادر الانفتاح تلوح في الأفق؟!..
هل حان الوقت لكي نقذف بالتزمت والتشدد والتخلف في سلة الماضي لتنمحي من أذهاننا ولتكون في منأى عن الأجيال القادمة؟!..
هل فعلاً سنستقبل تاريخاً جديداً مليئاً بالتقدم والتطور؟!..
وزال عن قلبه كل ما تراكم عليه من غبار التخلف ومظاهره.
ووجد نفسه دون شعورٍ يتقدم بخطى ثابتة نحو تلك الفتاتين، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة في شفتيه، فلا شك أنهما تبحثان عن مثله.
حانت منهما التفاتة إلى سعادته لينتهزها فرصة للتلويح لهما بيده الكريمة، فلم تترددا في الاستجابة لإشارته.
لم يستغرق طويل وقت ليتعارفوا، ولتلبيا دعوته لضيافتهما، فانطلقتا معه بسيارته الفارهة إلى شقته المفروشة في ذلك الفندق الفخم، وبينما هو في طريقه يحدوه الأمل في قضاء سهرة ممتعة معهما، إذا بسيارة من نوع الجمس تقوم بإجبارهم على الوقوف بمنتهى الوقاحة وقلة الذوق ودون أدنى احترام وتقدير لمشاعر سعادته، ونزل منها شخصان ملتحيان قصيرا الثوب، وطلبا منه النزول، ولم يكد ينزل من سيارته مغضباً من هؤلاء (الملاقيف) حتى قبضا عليه بأيديهما الغليظة، ففقد حضرة صاحب السعادة هدوءه وأطلق العنان للسانه يقذف بما تعود عليه من أنواع الشتائم والسباب، ونسي مرة أخرى أنه صاحب سعادة أو معالي، وبنظرة واحدة إلى الشعار الموجود على زجاج الجمس تجمد الدم في عروقه، إذ لم يكن ذلك الشعار غريباً عليه، حيث أدرك أنه في قبضة رجال الهيئة الذين طالما ألَّف فيهم السيناريوهات والقصص البوليسية والوحشية، وجعل منهم أعداءً للحضارة والتقدم، وكم تمنى أن لو كان بإمكانه محوهم من الوجود، فحاول المقاومة بكل ما أوتي من قوة للانفلات من براثنهما واستعرض أمامهما جميع فنون القتال ومهارات الدفاع عن النفس، فقد كان همه الأكبر الانتصار الساحق عليهما أمام ضيفتيه اللتين تشهدان المعركة الطاحنة وتستعجلان النتيجة الحاسمة، إلا أن كل تلك الجهود ذهبت سدى، إذ تم إحكام القبض عليه، فبدأ يلقي عليهم خطبة مجلجلة عن التشدد وآثاره السيئة على الأمة وعواقبه الوخيمة وانتهاكهم للأعراض .. وبكل هدوء وصمت مطبقين لائقين بحضرته سيق رغم أنفه إلى صندوق صالون الهيئة (الجمس) يكمل خطبته هناك، ليكتشف مؤخراً أن أحلامه الوردية الجميلة قد انقلبت كابوساً مزعجاً.
وفي اليوم التالي قرأ الناس مع قهوة الصباح خبراً نشر في الصحف عن اعتداء بعض أعضاء الهيئة على رجل بريء جالس على الشاطئ، في محاولة منهم لإسقاط اعتباره بعد أن تم اتهامه كذباً وزوراًُ وبهتاناً بأنه ضُبط متلبساً بخلوة مع فتاتين، وأن أعضاء الهيئة في حاجة إلى إعادة تأهيل ودورات في التعامل مع الناس نظراً لكثرة تجاوزاتهم وانتهاكهم لأعراض الناس دون مبرر شرعي أو نظامي...إلخ.
اسم الموضوع : تجاوزات الهيئة ومحاربتهم للتقدم والتطور في نظر البعض ..
|
المصدر : .: أشتات وشذرات :.