قد يستطيع الشخص إطلاق العنان لخياله ليسبح في آفاق الشعر العربي، أو ليتغلغل في أعماق الثروة الأدبية العربية، ولكنه قد يستصعب أن يذكر أجمل ما مرّ به من الشعر على الإطلاق دون تقييد بأحد الميادين المعروفة في الشعر، وهي: المديح والهجاء والرثاء والحماسة والوصف والغزل والاستعطاف...إلخ.
لذا أرى أن تقيد الأفضلية بذلك التصنيف كرأي قابل للرد والقبول ولكن دون تهجم على صاحبه لمجرد أنه خالف بعضهم كصنيع بعض رواد المنتدى في التسرع بالحكم هدى الله الجميع.
وأما بالنسبة لي أنا فقد بعُد عهدي بالاطلاع على هذا الفن، كما لم أحفظ شيئا في الأدب خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، وكل ما أذكره هو بقايا رواسب هذا الفن المتعلقة بالذهن منذ أيام الثانوية-يعني أيام المراهقة- فمن أجمل وأصدق ما أذكر مما قرأته في الرثاء قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- في فقيد الثقلين:
فما فقد الماضون مثل محمّدٍ***ولا مثله حتى القيامة يُفْقَدُ
وفي الغزل قول المتنبي:
ولو تفلَتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ***لعاد أجاجُ البحر من ريقها عذبا
عِلما أن المتنبي من حيث الواقع كان أعزّ نفسا من أن يتنزل إلى هذه الدنايا، من التغزل بالنساء ونحو ذلك كما تقرر عند أهل هذا الفن، وإنما اتهم مجرد تهمة بأنه كان يخفي وراء رموزه وإشاراته تغزُّلَه بأخت سيف الدولة خوفا من بطشه.
وأما في الهجاء:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا***ما كان إلا دون قبح الجاحظِ
وأما في الوصف فقول من يصف عشيقته وهي تبكي:
وأمطرَتْ لُؤلؤا من نرجسٍ فَسقَتْ***وردًا وعضّتْ على العنّابِ بالبرَدِ
أمطرت: بكت. لؤلؤا:دمعا. نرجس:العين المحاطة بالأهداب الكثيفة. وَرْدا:خَدًّا. العنّاب:الأنملة. البرَد:الأسنان.
وأما في المديح فقول حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح المبعوث رحمة للعالمين:
فأحسنَ منك لم ترَ قطُّ عيني***وأجملَ منكَ لم تلد النساءُ
خُلِقتَ مبرّأً من كلّ عيبٍ***كأنك قد خُلقت كما تشاءُ
وأما في الحماسة فقول عبد الله بن رواحة يستنزل نفسه في غزوة مؤتة:
أقسمت يا نفسُ لتنزلِنّهْ***لتنزِلِنّ أو لتُكرَهِنّهْ
ما لي أراكِ تكرهين الجنهْ
وقول قطري بن الفجاءة الخارجي يشجّع نفسه على الثبات:
أقول لها وقد طارت شعاعا***من الأبطال ويحكِ لن تُراعي
فإنكِ لو سألت بقاء يومٍ***على الأجل الذي لك لن تُطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا***فما نَيلُ الخلود بمستطاعِ
وما ثوبُ البقاء بثوب عزٍّ***فيُطوى عن أخي الخنع اليراعِ
هذا، وأرجو عدم مؤاخذتي على تشبثي بالقديم تاركا ما جدّ في ساحة الأدب، فلست من المهتمين بالأدب حاليا كما أسلفت. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه ووقف حيث انتهى علمه.