لما مد الإسلام فتوحه منطلقا من مكة المشرفة وطيبة الطيبة ومتوجها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .. دخل فيه أبناء البلاد المفتوحة ، وشملت سماحته من بقي على دينه من هؤلاء .. لقد كان الإسلام بحضارته ومدينته متينا قويا بقدر قوة عقيدته ورسوخ مبادئه ، وبهذه القوة والرسوخ أخذ وأعطى ووافق وتأبى ، ولم يندفع في حركة تقليد أعمى للأفكار الوافدة من الحضارات التي قبلها شرقية كانت أو غربية ..
نعم ، هذه متبعة لتاريخ دين الإسلام ورسوخ عقيدته وشموخ بنيانه من خلال النظر في تاريخ مكة المكرمة وعمرانها وشرفها ومآثرها زادها الله تشريفا وتكريما ومهابة وبرا ..
إنه حديث عن عقيدة وتاريخ ودين وتراث وشريعة وعمل وفضائل ومآثر تتوق إليه النفوس وتهفو إليه الأفئدة ..
نعم ، هذه الأمة تجد أصلها وأصالتها من خلال التوحيد والتاريخ في بيت الله المعظم يتعانق الدين مع الدنيا وترتبط الأرض بالسماء تاريخ المسجد الحرام بيت الله وكعبته وبلده تاريخ عميق عريق إنه من أقدام بلاد الدنيا ..
بل بيت الله المعظم أول بيت وضع للناس .. (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ )) [آل عمران٩٦] . وهذا أبو ذر رضي الله عنه يقول : قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام .. الله أكبر ، إنه لتاريخ من أنصح التواريخ .. وتدوين من أوثق التدوين .. محفوظ في كتاب الله الذي (( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) [فصلت٤٢] . ومثبوت في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهد من خلال سيرة
نبي الله الطاهرة المطهرة وصحبه البررة ..
القرآن الكريم ذكر مكة والكعبة والبيت المعظم والمسجد الحرام عشرات المرات بين فيها ما ينبغي لهذا المكان الطاهر من التكريم والإجلال والتعظيم والتقديس .. وعرض لصور من تاريخه الراسخ الضارب في أعماق الزمن كما تحدثت كثير من آياته عن أحكامه ومناسكه والتقلب في عرصاته ..
إنها حركة التاريخ وميلاد الأمة تبدو في نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام وهو يودع طفله الرضيع إسماعيل وزوجه المنفردة هاجر ويتوجه بقلبه الدافق ودمعه الخانق : (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ )) [إبراهيم٣٧] . وها هو الملك ينادي الأم الملتاعة على وليدها لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .. وتتسارع الأيام والأطياف فإذا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت بأمر ربهما : (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [البقرة ١٢٧] . إنه إبراهيم المحارب للأوثان والمطارد للشيطان ، وإن هذا بيت الله شعار التوحيد : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ِ(( [الحج٢٦] .
ثم تسارع آخر فإذا هو عبد المطلب بن هاشم يتصدى للغزاة معلنا وموقنا أن للبيت ربا يحميه .. ثم هو مرة أخرى نذر ابنه عبد الله الذي يفدى بما يزيد على مائة من الإبل ليأذن الله بخروج أكرم الخلق على الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم تجمع قريش والقبائل من حولها من طيب مالها لتعيد بناء البيت بعد أن أخذت منه عاديات الزمن ، ويشب الفتى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هو يضع الحجر الأسود بيمينه الشريفة ليطفئ نار فتنة كادت أن تثور .. ثم يبعثه رب هذا البيت من جوار هذا البيت هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ..
نعم .. ينطلق التاريخ وتنبعث الأمة لتتربع على عرش قيادة الدنيا .. لقد دعا أبونا إبراهيم عليه السلام أن يظل بيت الله آمنا وأن يحفظ ذريته من الشرك لما رأى من سنن الله في مصير الأمم بعد الأنبياء : (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) [إبراهيم٣٥ ٣٦] .
نعم ، لقد كان من دعاء إبراهيم وإسماعيل أن يعيشا هما وذريتهما على الإسلام وللإسلام وأن يموتا عليه تدين به وتدعو إليه وتغار عليه : (( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) [البقرة١٢٨].
وإن من بركات هذه الدعوات أن جعل الله بمنه وكرمه على أهل الإسلام وأهل الحرم جعل كعبته وبيته قياما للناس لقد جعله صلاحا ومعاشا تقوم به حياتهم ويأمنون فيه على أنفسهم .. قال أهل العلم : ( والحكمة في جعل الله ذلك قياما للناس لأنه خلق الخلق على الطبيعة الآدمية والجبلة البشرية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر والسلب والإغارة والقتل والثأر .. فلم يكن بد في الحكمة الإلهية والمشيئة الأزلية من رادع يدوم معه الحال ، ووازع يحمد معه المآل ، فعظم الله في حرمته وشرع في ذلك من الأحكام ما يختص به هذا الحرم فكان موضعا مخصوصا وحرما حراما لا يدركه كل ظلوم ولا يناله كل غشوم : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ )) [العنكبوت٦٧] . (( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )) [إبراهيم: ٣٧] .
ببيت الله المعظم قلب الأمة الإسلامية ، وهو قبلة عبادتها ، وهو مدرج الإسلام ومرباه .. أحجاره ورماله وسهوله وجباله كتاب مسطور عن مسيرة الإسلام وسير الإعلام .. إنه صدى القرآن ، وآيات الوحي .. فيه كتب مبدأ التاريخ وعنوان الحضارة من هذا الدين والتاريخ .. عن مجاهد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح فقال : ( أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات الأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر لا ينفر صيدها ولا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ) رواه البخاري ..
تصدرت مكة وكعبتها ومسجدها المكانة العميقة الراسخة .. فهي مهوى الأفئدة ومحل المثابة ومستقر الأمن .. عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة فقال : ( والله إنك لخير أرض الله وأحب الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني .
نعم ، انطلق الإسلام من مكة وكانت تسود العالم خصومات وعصبيات فلم تزل آيات الله تتنزل تهدي القلوب الضالة وترد النفوس الشاردة .. فما لبثت الأمة المحطمة أن عادت متماسكة ..
دستورها : (( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )) [الأنبياء٩٢] .
ومنهاجها : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) [71 التوبة ] .
وشعارها : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) [ 2المائدة ] .
وخلقها : (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) [10-9 الحشر] .
هذا هو التاريخ وهذا هو المنهج .. فمن تاجر مع لله ربحت تجارته ، ومن هاجر إلى الله مخلصا صحت هجرته ، ومن استجار بالله فنعمت إجارته .. نعم ، هذا هو البيت وهذه هي وظيفته .. فالصلاة الواحدة فيه بألف صلاة خير من صلاة خمسة وخمسين عاما في غيره .. وهذا ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة ) رواه البزار والطبراني في الكبير وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح الإسناد رحمهم الله جميعا ..
فكم من هؤلاء القاصدين من عباد صالحين : هذا منيب ، وهذا مخبت ، وذاك ناسك ، وذلك متبتل .. قانتون أوابون صابرون محتسبون يعيشون في بقاع هي أفضل البقاع ويجتمعون في أرض هي أقدس المقدسات من أعظم مجامع الدنيا تجتمع لهم أسباب الرضا والرضوان .. وفي الحديث الصحيح : قال صلى الله عليه وسلم : ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ) رواه البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
فها الآن بدأ ضيوف الرحمن يأتونكم يا أهل مكة - فلنكرم وفادتهم ، ولا نغشهم ، ولنعاملهم بالحسنى إرضاءً لله عزوجل ، ولنعلمهم القرآن والدين ، وندلهم على الخير .. يا أهل مكة ، أنتم إن لم تعاملوا أنتم بالمعاملة الحسنة من يعاملهم المعاملة الحسنة ، فهشوا وبشوا عند ملاقاتهم إرضاء لله .. ولنكن قدوة حسنة فحن في أنظارهم أولاد وأحفاد الصحابة ولنكن إسلاما يمشي على الأرض .. فهذه فرصة عظيمة .. فمن عنده القرآن يعلمهم القرآن ، ومن عنده السنة يعلمهم السنة ، ومن رزقه مالا فينفق بما يقدر عليه ؛ دعوة إلى الله ، وكسبا لقلوبهم .. حتى يعيش الحاج الإسلام بكل معانيه .. حتى إذا رجع إلى أهله رجع وقد تعلم الدين ..
ودعا إليه غيره ..
ثم إنه لا ينساك ألبتة أنك أقرأته القرآن .. وعلمته السنة ..
إنه متى ما رفع يديه إلى الله تذكرك وتذكر معاملتك الحسنى .. فدعا الله لك ..
كسبت رضا ربك .. وكسبت قلبه ..
وكسبت لك ذكرا حسنا عند الناس .. وإن شاء الله دعاء مستجابا عند الله لأنه دعا الله في الغيب ..
قال صلى الله عليه وسلم: ( دعوة المرء المسلم لاخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لاخيه بخير ، قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل ) .أخرجه مسلم (8/86،87) والسياق له
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : مكة المكرمة ومآثرها
|
المصدر : .: أشتات وشذرات :.
