بركان يوسف شون
مراقب سابق
توزيع "الفشار" عند ختم القاعدة البغدادية : عادة أراكانية أصيلة !
فكره وتصوير : بركان يوسف شون
كتابة وتعليق :فتى اراكان (إبراهيم حافظ)
(1)
شاهدت قبل سنة في إحدى المدارس الخيرية عرضاً مسرحياً أرجعني إلى أيام الطفولة ، وذكّرني بصور جميلة كنا نألفها في تلك الأيام البريئة ،
ولم يعد لها الآن حضور بين جيل الطفولة الحالي إلا نادراً :
كيس بلاستيكي كبير يشفّ عما بداخله ، مملوء إلى نصفه أو أكثر بـ "الفشار" ، يدخل به طفل صغير أو والده إلى حلقة التحفيظ في المسجد
ابتهاجاً واحتفالاً بختمة ابنه التاريخية للقاعدة البغدادية أو النورانية ، فيلفت إليه أنظار زملائه جميعاً صغاراً وكباراً ، ويسيل لعابهم من حينه إلى أن يحين أوان توزيعه عليهم قبل
الفسحة الخاطفة التي لا تتجاوز مدتها عشر دقائق أو ربع الساعة على الأكثر قبل أذان المغرب ، فيصطفّون
جميعاً استعداداً لتلقي حصتهم من "الفشار" بالكوفية أو الطاقية التي يضعونها على رؤوسهم ؛ لتنقلب فجأة في ذلك اليوم التحفيظي المثير إلى وعاء قطني مدهش ! يملؤه مقدار قبضة اليد من "الفشار" المملَّح اللذيذ!
اسألوا طفلاً من الجيل الحالي عن مثل هذه الذكريات الجميلة التي نحملها في ذاكرتنا عن أيام التحفيظ "الرهيبة المرعبة" أحياناً قبل عَقْد أو عقدين من الزمن .. لن تجدوا عنده شيئاً منها ؛ ولكنكم واجدون مثلها أو خيراً منها في ذاكرة آبائنا وأجدادنا المهاجرين من أراكان !
فعادة توزيع حبات " الفشار" على أطفال الكتاتيب بعد ختم القاعدة تقليد أراكاني أصيل موروث من قبل عشرات السنين
كما أخبرنا العم المخضرم مولوي منير أحمد من قرية (نوا فارة) في (بوسيدونغ) بأراكان المحتلة ، والذي يبلغ من العمر خمساً وستين (65) سنة عاش خمساً وثلاثين (35) منها في البلاد العزيزة المنكوبة ردَّها الله ونصر أهلها في القريب العاجل .
وهو يضيف قائلاً : إن "الفشار" الذي كانوا يوزعونه هناك في أراكان ويلتذّون بتناوله يختلف كثيراً عن "الفشار"
الذي يحفظون ذرته هنا مجفَّفة معلَّبة في علب معدنية صغيرة ، ويقلونها في الزيت بعد فترة تطول أو تقصر من حين تعليبها ؛ لأن "الفشار"
الذي كانوا يتناولونه هناك كانت له قصةُ إنضاجٍ مختلفةٌ أطعم وأروع ! حيث توضع أعواد الذرة الطازجة بعد حصدها من منابتها مباشرة في آنية فخّارية محمّاة بالنار ، حتى تتفتّق وتفرِّخ عن "فشار" لا شبه له بفشار اليوم إلا في اللون والشكل فقط ،
أما الطعم والرائحة والذوق فلا تسل عن شيء منها ؛ إذ لا يمكنك تخيلها دون أن تتذوقها ! أجل ، كانت حياة أراكانية زراعية طبيعية (100) % ..
واحسرتاه : أين نحن اليوم منها؟!
(2)
وما هي إلا بضع سنين أخَر وإذا طفل الأمس الذي كان بيده "القاعدة" يغدو الآن فتى الزمان الذي بيده المصحف الشريف ،
ويقبل على حلقته مغتبطاً سعيداً ، مزهواً بختمه له حفظاً . وإذا هدية الأمس التي كانت عبارة عن كيس من "الفشار" المملَّح تغدو اليوم
كراتين من قطع الكعك المغطَّى بطبقة من القشدة الطرية الناعمة اللذيذة ، توزَّع بفرح وابتهاج على زملائه الشرهين المتلمِّظين
وكذلك المصلين في المسجد بعد أن يزفَّ إليهم معلم الحلقة أو من ينوب عنه الخبرَ السعيد بختم القرآن وحفظه والتعريف بصاحبه
وذكر اسمه وعمره وعدد السنوات التي استغرقها في حفظه ، مختتماً ذلك كله بدعاء جماعي للحافظ ووالديه ،
ولا ينسى خلال ذلك أن يشنِّف أسماعهم بتلاوة آخر درس أتمَّ به الحافظ ختمته في حفظ القرآن .
(3)
أما الختمة التي تكون في العشر الأواخر من ليالي رمضان فقد تكون هديتُها للمصلين كراتينَ من العصير المبرَّد ،
يُوزَّع عليهم ترطيباً لحلوقهم بعد صبرهم ودَأبهم على الاستماع للقرآن في صلاة التراويح لما يقرب من شهرٍ ما أرقَّه وأنداه بآي الذكر الحكيم !
ولكنها عادة حديثة اندثرت فجأة مثلما انتشرت هنا في مساجد المهجَر فترة من الزمن ؛ إلا أنها عادة تقابلها عادة أراكانية أصيلة في المناسبة نفسها ؛
حيث كان أحد الموسرين هناك يتبرع بجاموسة من جواميسه مثلاً ، يتولون عنه إعدادها وطبخها " إداماً " أراكانياً عريقاً
يقدِّمونه للطاعمين من أهل الحي مع فطيرتهم البيضاء المصنوعة من دقيق الأرز التي تسمى "لوتي فيرا" ،
حسبما أفادنا به العم المخضرم محمد صديق أبو البشر البالغ من العمر ستاً وستين (66) سنة عاش نصفها تقريباً بقرية (موني كول) في (بوسيدونغ) أيضاً مثل سابقه ؛
ولكن ..
لو لم يمنَّ الله علينا بفتح هذا المنتدى المبارك - إن شاء الله - تُرى أين كنا سنحفظ وندون مثل هذه العادات التقليدية الموروثة
للأجيال الأراكانية القادمة؟ ومع ذلك فليتني كنت أحد هذين الشيخين المخضرمين ، لأستمتع بممارستها مع أهل بلدي في موطنهم ..
بدلاً من السعي في تدوينها وتوثيقها للقادم من أبنائهم في مهجَرهم !!
اليكم الصور
http://www.facebook.com/media/set/?set=a.411598978915932.101698.100001975018385&type=3
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
اسم الموضوع : توزيع "الفشار" عند ختم القاعدة البغدادية : عادة أراكانية أصيلة !
|
المصدر : .: تراث الأجداد :.
