أبو هيثم الشاكر
مراقب سابق
اللص الورِع
في حياتنا اليومية نمرّ بصور كثيرة للورع والتقوى دون أن نوليَها كبير عناية.
كان لي في طفولتي أيام الكتاتيب صديق من أبناء الجيران، كثيرا ما كان يتّفق خروجنا صباحا للذهاب إلى معلّم الصبيان، سبحان الله! كم كان أساتذتنا مخلصين في التعليم، لا أتذكر أن معلّمَنا غاب يوما عن الكُتَّاب.
وفي الحقيقة كانت تلك الحقبة من العمر من أجمل مراحل الحياة، ومن أروع مراحل التعليم، درس في القرآن نظرا، ثم درس في كتاب (أردو بهلي أو دوسري أو تيسري) أي اللغة الأردية الكتاب الأول أو الثاني أو الثالث، حسب مستوى المجموعة التي ينتمي إليها التلميذ، ثم درس في الحساب.
وبعد العصر درس من كتاب (تعليم الإسلام) باللغة الأردية، ثم مراجعة جميع أدعية وأذكار الصلاة قبيل المغرب ثم الانصراف.
أيام ولّت بذكرياتها حُلْوِها ومُرِّها، نعم كيف ينسى التلميذ طول حياته ذلك المولوي الذي كان يُلْهِب ظهره بسياط لاذعة لأنه لم يره في صلاة الفجر، لأن القدر ساقه أمامه مساء الجمعة أثناء اللعب.
وإياك أيها التلميذ أن تفكّر في الغياب أو الهروب، فمجرد تأخرك عن حضور الكُتّاب يصل إلى باب بيتك ما لا يقل عن أربعة من زبانية المولوي، لا يدّخرون وسعا في حملك إلى الأستاذ، ولا ينتهي دورهم بمجرد تسليمهم إياك لحضرة الأستاذ، بل يتلقّون من الأستاذ أمرا من نوع (خذوه فَغُلّوه).
وبعد ذلك هل يفكّر التلميذ في الغياب حتّى لو بات طريح الفراش؟ كلا بل يتجشّم الحضور ويؤتى به يُهادَى بين آخرَينِ إن عجز عن المشي.
نرجع إلى صديقي ابن جارنا.
لم أتعوّد منه أن يُشركَني يوما في شيء يأكله، وبقدرة قادر وفي لمح البصر رأيت منه فجْأة ما يُنسيني -وربّي- حاتم الطائي.
بعد انصرافنا يوما وأثناء عودتنا إلى البيوت اشترى أمامي بعض الحلويات، نعم أمامي ولم يكن يوما يفعل ذلك تفاديا لإحراج منعي من مشاركته.
نعم اشترى الحلويات أمامي، ولم يُطاوع نفسَه الأمّارةَ بالسوء في البخل بها عليّ، بل منحني من حلوياته كمية لا يُستهان بها، ولا يطيب بمثلها إلا نفسُ كريمٍ من سلالة الكرماء.
وجدت نفسي أمام مكرمته هذه أنحني تبجيلا له، أما اللسان فلا زال يلهج بالشكر له، وأما عيني فلا تنفك تنظر إليه نظرة إكبار وإجلال.
سرنا في طريق عودتنا ونحن نأكل، ولما وصلت إلى بيتي رأيته يهرول أمام بيتنا ويتجاوزه بسرعة غير معتادة، وعلى كلّ حال دخلت بيتي، وقبل أن أخلع ثوبي تفقّدت نصف الريال الذي كان في جيبي ففوجئت بعدم وجوده.
في اليوم التالي لم يملك ذلك اللص الورع أن يخفي عني أن ما اشتراه أمس من الحلويات وما أتحفني به من تلك الكمية إنما كان ذلك بنصف الريال الذي اختلسه من جيبي في المدرسة، وأبى ورعه وتقواه أن يحرمني شيئا هو لي أصلا، وأن ينفرد هو به.
تلك كانت من أغرب صور الورع، وعلمت حينئذ أنه إنما هرول أمام بيتي أمس خشية أن أفطن للأمر فأخرج لأدركه.
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : اللصّ الورِع
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.