فتى المعالي
مراقب سابق
- إنضم
- 28 مارس 2009
-
- المشاركات
- 193
-
- مستوى التفاعل
- 0
-
- النقاط
- 0
- العمر
- 35
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، ثم أما بعد :
فلا نزال نصرح بأعلى صوتنا بأهمية التعلم على طريقة التأصيل والتقعيد ، ومن باب التنبيه على أهمية هذا المنهج الطيب أحببت أن أفيد إخواني الطلاب بعض الفوائد الطيبة والعوائد الحميدة التي يجنيها من سلك هذا المسلك ، فأقول وبالله تعالى التوفيق ، ومنه أستمد العون والفضل :
اعلم رحمك الله تعالى أن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد نبهوا على أن التعلم لا بد فيه من الاهتمام بالسير على نهج التأصيل والتقعيد ، وأن طالب العلم لا ينبغي له أن يغفل عن هذا الجانب المهم ، فلا بد من النظر في القواعد والإقبال على فهمها ودراستها الدراسة الكاملة الجامعة بين فهم المعنى ومعرفة الدليل الدال على صحتها ، وإجادة التخريج عليها ، وهذه الطريقة هي أفضل طريقة في التعليم ، فإن من جاز أصول الشرع لانت له فروعه ، ومن أحكم كلياته دانت له جزئياته ، فالله الله أيها الطلاب بدراسة القواعد وفهمها ، فإن هذه الطريقة لها أهميتها ولها عوائدها الطيبة ، وتبرز هذه الأهمية في عدة أمور :
الأول : أنها هي طريقة القرآن والسنة ، فإن الأدلة الشرعية لم تأت للتنصيص على بيان أحكام الفروع بعينها في كل باب ، ولكنها حرصت الحرص الكامل على بيان أحكام أصول الأشياء وقواعدها والكليات التي ترجع إليها ، ولذلك لا تجد شاذة ولا فاذة إلا وتجد في الأدلة ما يدل عليها إما بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام ، ولذلك قال الله تعالى " ما فرطنا في الكتاب في شيء " على أحد التفسيرين ، من أن المراد بالكتاب القرآن ، وإلا فإن الفروع كثيرة لا تنتهي ، وكل فرع منها لا بد وأن ينص عليه حكم الشرع ، فلو أن كل فرع لا بد من ذكره بعينه في القرآن لكان القرآن أضعاف ما هو عليه ، وإنما نبه القرآن على القواعد والأصول ، فمثلا : باب الأطعمة والأشربة كله يدخل في قوله تعالى " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " فما كان يدخل تحت وصف الطيبات من الأطعمة والأشربة فهو الحلال ، وما كان خبيثا فهو من المحرمات ، فانظر إلى هذا التأصيل الذي يدخل تحته من الفروع ما لا يتناهى ما دامت هذه الدنيا ، ومثال آخر : باب العبادات كله من أوله إلى آخره يدخل تحت قوله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " فأفاد هذا أن التشريع مبناه على إذن الله تعالى ، فما لم يأذن به الله تعالى من العبادات فليس من العبادة في صدر ولا ورد ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " يدخل تحته جميع المحدثات والبدع في العالم الإسلامي والعربي ، سواء منها تلك العبادات التي تتعلق بأمر من أمور المعتقدات ، أو المحدثات المتعلقة بالعمل قولا وفعلا ، كلها على مختلف أشكالها وتباين صورها تدخل تحت هذه القاعدة المحمدية ، فانظر كيف دخل تحت حديث واحد ما لا يحصر من المحدثات ، ومثال آخر : وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأعمال بالنيات ... الخ " فإنه عبارة عن نصف الدين ، فهو ميزان للأعمال الباطنة ، فلا تصح العبادات المأمور بها إلا بالنية ، ولا يترتب الثواب إلا بالنية ، فالأعمال تختلف قبولا وردا ، وكمالا ونقصا باختلاف النيات والبواعث ، فهذا الحديث يعبر عن ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث " من أحدث في أمرنا " يعبر عن ميزان الأعمال الظاهرة ، فهما قاعدتان من قواعد الدين وأصلان مهمان من قواعد الملة ، والمقصود أن التعليم على طريقة التأصيل والتقعيد هي طريقة القرآن والسنة .
الثاني : أنها الطريقة المأمونة من الحيرة في كثرة الفروع ، فإن الفروع كثيرة جدا ومتنوعة ، ويخشى على الطالب من كثرتها أن يمل ويكل وينقطع به العزم وينكسر به المركب ، وأما طريقة التأصيل والتقعيد فإنها حزام أمان من الحيرة في كثرة التفريع ، وكما قال الناظم :
وبعد فالفقه عظيم واسع ونجمه بين الفنون ساطع
لكـنما فـروعـه كثيــرة وتجعل العقل بألف حيرة
إن لم تكن تنظم في قواعد تسهل الرجوع للفوائد
فالقواعد الشرعية عبارة عن نظام أمان يحفظ طالب العلم من الانقطاع والملل والحيرة ، والله أعلم .
الثالث : أنها الطريقة المتفقة مع خصيصة هذه الأمة ، فإن مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا ، وهذا عبارة عن التأصيل والتقعيد ن فإنك تجد القاعدة لا تتركب إلا من كلمات يسيرة إلا أنها تحمل بين طياتها الكثير والكثير من العبارات والفروع ، وأما تكثير الكلام وتشقيق العبارات فإنه ليس من البلاغة ولا من الفصاحة في شيء ، فضبط القواعد والأصول ومعرفتها وإجادة التفريع عليها هو الذي يتفق مع ما اختصت به هذه الأمة .
الرابع : أنها الطريقة التي لا يتحقق الرسوخ في العلم إلا بسلوكها ، فلا والله لن يشم العبد رائحة الرسوخ بأنفه إلا بهذه الأصول والقواعد ، فإنها زبدة الدين وخلاصة الشرع ، فمن أراد الوصول إلى درجة الرسوخ في العلم فعليه بضبط القواعد والأصول والكليات ، فبها يصل العبد إلى الغاية والنهاية في العلم ، ويتحقق له ما يريده من حفظ العلم وضبطه وتأصيله والرسوخ فيه ، وأما قصر البحث في الفروع فقط فإنها لا تعطي الطالب كبير فائدة ، ولا توصله إلى مأموله من العلم ، فالقواعد والأصول توصل العبد إلى الدرجات العلى في العلم بأيسر طريق وأقل كلفة ، والله أعلم .
الخامس : أنها الطريقة التي توصل العبد إلى معرفة الراجح من المرجوح والمقبول من المردود من فروع الشريعة ، فلا تجد في الأعم الأغلب من له قدم صدق في الترجيح إلا وهو من أهل التأصيل والتقعيد ، وأما من يدور حول الفروع ولا نظر له في القواعد والأصول فإنه في الغالب لا يصل إلى هذه الدرجة ، والله أعلم .
السادس : أنها الطريقة التي بها يتعرف الطالب على مآخذ أهل العلم رحمهم الله تعالى في اختياراتهم ، في وفاقهم وخلافهم ، فإن خلاف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الغالب ، إنما يرجع إلى خلافهم في قاعدة من القواعد أو أصل من الأصول ، فمن لا يعرف القواعد والأصول فإنه لن يعرف لماذا اختلف أهل العلم ، وقد ينسب أهل العلم جهلا منه إلى ما لا يليق بهم ، وأنا أضرب لك أمثلة على ما أريد إثباته لك هنا ، فأقول :
الأول : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في اشتراط الولي في النكاح ، فذهب الجمهور إلى القول بأنه شرط ، فلا يصح النكاح إلا به ، وذهب الحنفية إلى القول بأنه ليس بشرط صحة ، فيصح أن تتولى المرأة نكاح نفسها ، وسبب الخلاف بينهم هو خلافهم في قاعدة أصولية ، وهي التي تقول ( خبر الآحاد هل هو معتمد فيما تعم به البلوى أو لا ) فمن قال : إنه خبر الواحد معتمد فيما تعم به البلوى قال : لا بد من الولي في صحة النكاح ، ومن قال إنه لا يعتمد ، قال بان الولي ليس بشرط ، والحنفية أجازوا للمرأة أن تنكح نفسها لمن شاءت لأنهم لا يعتمدون خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، والجمهور قالوا بأنه شرط ، لأنهم يعتمدون خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، والحق في هذه المسألة هو أن خبر الواحد معتمد فيما تعم به البلوى ، فإن صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب اعتماده ، والأحاديث في اشتراط الولي قد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب القول بمقتضاها ، وبناء على هذا الترجيح نقول : الحق أن الولي شرط في النكاح ، فلا يصح للمرأة أن تتولى عقد زواجها بنفسها ، والأدلة على ذلك ستأتي في مكانها من هذا الشرح إن شاء الله تعالى ، والمهم أن تعرف أن الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في هذه المسألة مبني على خلافهم في هذه القاعدة ، فمن لا يعرف القواعد لا تكون عنه الملكة لفهم خلاف العلماء والتعرف على مآخذهم فيه .
الثاني : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في النية في الوضوء أهي شرط صحة أم شرط كمال ، فذهب الحنفية إلى أنها من شروط الكمال ، فيصح الوضوء بدونها ، وذهب الجمهور إلى أنها من شروطه فلا تصح إلا به ، وسبب الخلاف بينهم هو الخلاف في الوسائل ، هل الوسائل تفتقر إلى النية أو لا ؟ فلأن القاعدة عند الحنفية أن الوسائل لا تفتقر إلى النية قالوا : لا تشترط النية لصحة الوضوء ، وأما الجمهور فالقاعدة عندهم أن النية شرط في المأمورات بغض النظر عن كونها من الوسائل أو المقاصد ، فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع بسبب خلافهم في هذه القاعدة ، والحق في هذه المسألة هو ما اعتمده الجمهور ، من النية شرط في الوسائل المأمور بها ، لأن المتقرر أن النية شرط لصحة المأمورات ، وبناء على هذا الترجيح فالحق أن النية شرط في صحة الوضوء ، والله أعلم .
الثالث : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في مس الذكر باليمين حال البول ، فقال بعضهم بالتحريم ، وقال بعضهم بالكراهة ، وسبب الخلاف بينهم قاعدة أصولية ، وهي هل النهي في باب الآداب يفيد التحريم أم يفيد الكراهة ، فلأن الجمهور يرون أنه يفيد الكراهة قالوا بأنه مكروه ، ولأن الظاهرية يقولون إنه للتحريم قالوا : بأنه محرم ، والحق في هذه المسألة أن النهي للتحريم مطلقا إلا لقرينة ، سواء في باب العبادات أو باب الآداب ، وبناء على هذا الترجيح نقول : الصحيح أنه يحرم مس الذكر باليمين حال البول ، إلا لعذر في اليد الشمال ، وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى .
الرابع : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في عدد غسلات الإناء من ولوغ الكلب ، فقال الحنفية بأنها ثلاث ، وقال أكثر العلماء بأنها سبع إحداها بالتراب ، وسبب الخلاف بينهم هو الخلاف في قاعدة أصولية تقول ( إن تعارض رأي الراوي وروايته فأيهما يقدم ؟ ) فالحنفية يقولون بتقديم الرأي على الرواية ، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا ، مع أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بغسل الإناء منه سبعا إحداها بالتراب ، فتعارض رأيه وروايته ، فقدم الحنفية رأيه ، وتركوا روايته ، وأما أكثر العلماء فإن المعتمد عندهم هو الرواية لا الرأي فقالوا بوجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا إحداها بالتراب ، فانبنى خلافهم على الخلاف في هذه القاعدة ، والراجح ما اعتمده جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى من أن المعتمد هو الرواية لا الرأي وبناء على هذا الترجيح نقول : القول الصحيح هو أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا إحداها بالتراب ، لصحة الأحاديث في المسألة وصراحتها ، ولا نرضى أبدا أن تطرح لمخالفة رواتها لها ، والله أعلم .
الخامس : اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى فيما يصل إلى الميت من أعمال الحي ، فمنهم من وسع الأمر وفتح الباب على مصراعيه ، ومنهم من ضيق الأمر على ما ورد به النص فقط ، وسبب الخلاف بينهم هو خلافهم في قاعدة : هل الأمر فيما يصل إلى الميت من أعمال الحي اجتهادي أو توقيفي على ما ورد به النص ؟ ولما نظرنا إلى هذه القاعدة وجدنا أن الراجح فيها هو أن الأصل فيما يصل إلى الميت من الأعمال التوقيف ، وذلك لأن هذا الوصول أمر غيبي ، والمتقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، ولا مدخل للقياس ولا للاجتهاد فيها ، وعليه فالراجح في هذه المسألة هو أنه لا بد في إثبات وصول أجر هذا العمل إلى أحد من الأموات من دليل ، فما ورد الدليل بأنه مما يصل إلى الميت فهو الذي يصل ، وما لا فلا ، فمما ورد الدليل به الحج والعمرة عنه ، والصوم عنه ، والدعاء له ، وأجر صدقته الجارية أو صدقة غيره عنه ، ووفاء غيره بنذره ، وما كان سببا فيه من العلم النافع ، وعليه : فالأمر مبناه على الدليل ، فانظر كيف اختلفوا بسبب الخلاف في القاعدة ، وانظر كيف عرفنا مأخذ المسألة والراجح فيها لما هدانا الله تعالى لمعرفة الحق في القاعدة التي اختلفوا فيها ، والأمثلة كثيرة لا تكاد تحصر ، وإنما نحن أردنا الإشارة فقط ، والمهم أن تعرف أن من لا يعرف القواعد والأصول فإنه لن يذوق لذة الفقه ، ولن يعرف لماذا اختلف أهل العلم في المسائل المختلف فيها ، وعدم معرفته لسبب خلافهم يجعله لا يهتدي لطريق الترجيح بين أقوالهم المختلفة ، وهذه فائدة جليلة لا بد من فهمها ، والله أعلم .
السادس (؟؟) : أنها تختصر عليك الوقت في حفظ المسائل الكثيرة بحفظ أصل واحد ، فمثلا لو أردت أن تحفظ الفروع التي تجب فيها النية لما قدرت ، لكثرتها واختلاف أبوابها ، ولكنك لو حفظت الأصل الجامع لها لكان الأمر عليك أيسر وهو ( الأمور بمقاصدها ) أو ( الأعمال بنياتها ) أو ( المأمورات لا تصح إلا بالنيات ) فإنه يندرج تحت هذه الأصول مئات المسائل ، فبدل أن تحفظ كل مسألة منها على حدة ، يكفيك أن تحفظ أصلها الذي ترجع إليه ، وتعرف أحكامها منه ، وهذا ييسر التعلم للطالب ، ويقصر عليه المسافة ، ويخفف عليه العناء ، والله أعلم .
اسم الموضوع : طلب العلم على طريقة التأصيل والتقعيد
|
المصدر : .: زاد المسلم :.
