وقال ضياء الدين ابن الأثير (ت 637هـ):
«اعلم أنّ للكتابة شرائط وأركاناً. أما شرائطها فكثيرة. وليس يلزم الكاتب أن يأتي بالجميع في كتاب واحدٍ، بل يأتي بكلِّ نوعٍ من أنواعها في موضعه الذي يليقُ به.
وأمّا الأركان التي لا بدّ من إبداعِها في كلّ كتابٍ بلاغيٍّ ذي شأن فخمسة:
الأول: أن يكون مَطْلَعُ الكتابِ عليه جِدَّةٌ ورشاقةٌ، فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع.
الرّكن الثاني: أن يكون الدعاء المودعُ في صدْر الكتابِ مشتقَّاً من المعنى الذي بُني عليه الكتاب.
الرّكن الثّالث: أن يكون خروج الكاتب من معنىً إلى معنىً برابطةٍ؛ لتكون رقاب المعاني آخذةً بعضُها ببعضٍ، ولا تكون مقتضبة.
الرّكن الرابع: أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقةٍ بكثرةِ الاستعمال، ولا أريد بذلك أن تكون ألفاظاً غريبةً، فإنّ ذلك عيبٌ فاحشٌ، بل أريد أن تكون الألفاظُ المستعملةُ مسبوكةً سبكاً غريباً يظنُّ السامع أنها غير ما في أيدي النّاس، وهي مما في أيدي النّاس!. وهناك معترك الفصاحة الذي تُظهر فيه الخواطرُ براعتَها والأقلامُ شجاعتَها.
الرّكن الخامس: أن لا يخلو الكتابُ من معنىً من معاني القرآن الكريم والأخبار النبويّة، فإنها معدنُ الفصاحةِ والبلاغةِ... وهذا الركنُ يختصّ فيه الكاتب دون الشاعرِ؛ لأنّ الشاعر لا يلزمُهُ ذلك.
وإذا استكملتَ معرفةَ هذه الأركانِ الخمسةِ، وأتيتَ بها في كل كتاب بلاغيّ ذي شأنٍ؛ فقد استحققت حينئذٍ فضيلةَ التقدّم، ووجب لك أن تسمّيَ نفسَك كاتباً!».
«المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» (1/ 121-125) بشيء من التصرف.
وقال في فصلٍ عنوانه: في الطريق إلى تعلم الكتابة:
«هذا الفصل هو كنـزُ الكتابةِ ومنبعُها، وما رأيت أحداً تكلّم فيه بشيءٍ، ولما حبِّبتْ إليّ هذه الفضيلةُ، وبلّغني الله منها ما بلّغني؛ وجدتُ الطريق ينقسم فيها إلى ثلاث شعبٍ:
الأولى: أن يتصفّحَ الكاتبُ كتابةَ المتقدّمين، ويطّلع على أوضاعِهم في استعمال الألفاظِ والمعاني، ثم يحذوَ حذْوَهم، وهذه أدنى الطبقات عندي.
الثانية: أن يمزجَ كتابةَ المتقدّمين بما يستجيده لنفسه من زيادةٍ حسنةٍ إمّا في تحسين ألفاظٍ، أو في تحسين معانٍ. وهذه هي الطبقة الوسطى، وهي أعلى من التي قبلها.
الثالثة: أن لا يتصفّح كتابةَ المتقدّمين، ولا يطّلع على شيءٍ منها، بل يصرف همَّه إلى حفظ القرآن الكريم، وكثيرٍ من الأخبار النبويّة، وعدّة من دواوين فحولِ الشّعراء، ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظِ، ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة، أعني القرآن والأخبار النبويّة والأشعار، فيقومُ ويقعُ، ويخطئُ ويصيبُ، ويضلُّ ويهتدي، حتى يستقيمَ على طريقةٍ يفتتحها لنفسه.
وأخْلِقْ بتلك الطريقةِ أن تكون مبتدعةً غريبةً، لا شَرِكة لأحدٍ من المتقدّمين فيها، وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد، وصاحبها يُعدُّ إماماً في فنّ الكتابة، كما يُعدّ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ ومالكٌ -رضي الله تعالى عنهم- وغيرهم من الأئمة المجتهدين في علم الفقه، إلا أنّها مستوعرةٌ جدّاً، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لساناً هجَّاماً، وخاطراً رَقَّاماً».
«المثل السائر» (1/ 125، 126).