الأسيف
مراقب عام
جاء العيد .. فابتهج الجميع .. وخرج الكل يستقبلونه بكل فرح وسرور ..
من بينهم خرج ( عبدالله ) ليلقي نظرة من نظراته البريئة إلى فضاء الكون وفسحة السماء وسكون البحر ..
خرج إلى البحر مع إشراقة شمس يوم الثلاثاء برفقة مجموعة من أصحابه ..
لا زلت أذكر شخصيته وابتسامته - التي لا تكاد أن تفارقه - وقت صعوده إلى ( المايكرو باص ) ..
كان شاباً بسيطاً .. خلوقاً .. ديّناً .. صالحاً .. من يعرفه يذكره بالخير ..
تعب من الحياة المعيشية .. كان أكبر أولاد أبيه .. خرج إلى البحر ليلقي إليه بعض همومه وأشجانه .. وليشعر ببرد الراحة وطيب الحياة بعد ذلك العناء والكدّ الطويل ..
وصلوا إلى الشاطئ الكائن في آخر بلاج بعد كوبري السفينة على الاتجاه الأيمن ، ونصبوا الخيام وأنزلوا المعدات من السيارة ..
أخذوا قسطاً من الراحة .. لكن (عبدالله ) ما إن وجد فرصة إلا بحث في جواله عن اسمي ، حتى إذا استقر به ، ضغط على زر الاتصال ..
رنّ هاتفي .. فرفعت السماعة .. فإذا به يسألني عن غيابي .. وانطلق يعبر عن مشاعره .. كيف يهنأ في الرحلة بدوني .. وكيف .. وكيف ..
قال كلاماً طويلاً .. حتى أقنعني باللحوق بهم ..
ذهبت إلى أحد أقربائي .. فحدثته بالخروج فوافق ..
حتى أخذنا عدة السفر ولوازمه .. وانطلقنا نحو البحر ..
وهناك في الطريق .. كان يتصل بي بعد كل حين .. يسألني : مكان وصولي ..
حتى فقدت اتصاله فترة .. فأخرجت جوالي لاتصل به .. فأجد رسالة منه ففتحتها ..
فكانت هذه الرسالة ..
على نسمات البحر العليل ..
أنثر لك صدى كلامي وأقول :
وينك يا أحلى ملاك .. غبت والضحكة معاك ..
أحلى أيامي لقاك .. وأصعب أيامي وداعك ..
فاتصلت به .. كي أردّ جميله وصنيعه .. فوجدت جواله مقفلاً .. فظننت أنه في خارج التغطية ..
وأقبل الليل علينا بأجنحته السوداء .. حتى وصلنا إلى ( آخر بلاج ) .. وهناك الهدوء يكتنف المكان .. فأتصل بت مرة أخرى لأسأله عن مكان إقامتهم .. فوجدته مقفلاً ..
وكانوا مجموعة كبيرة .. فاتصلت بجوالاتهم .. واحداً تلو الآخر ..
فكانت جميع الجوالات مقفلة .. حتى وجدت جوال الشيخ ( عمر ) مفتوحاً ..
رفع السماعة .. وكان صوته مضطرباً .. سألته أين مكانكم ؟
قال لي بصوت خافت : ارجعوا من حيث أتيتم ..
قلت وبصوت مرتفع : لا يصح ما تقوله ، فقد قطعنا آلاف الأمتار لأجلكم ..
أرجوك ، أعط الجوال لصديقي ( عبدالله ) .. فلم أكمل كلامي ..
حتى .. سمعت نشيجه .. فقام وأقفل هاتفه ..
فانقطع عنا بصيص الأمل .. وخيط أشعة الشمس الذي يقطع نوره ظلام الكهف ..
لا أعلم إلى الآن .. ما يحصل .. لكني أحسست بالخطر قد دق ناقوسه ..
وشعرت بذبذبات داخلية توحي لي بأنه قد حصل مكروه ..
وهناك على مسارح تلك الليلة الغدافية الإهاب .. حالكة الجلباب ..
حدث كل شيء ..
فأصبحنا كالمجانين .. نبحث عن شعلة نار .. فإذا ما وجدنا منها شيئاً هرعنا إليها مرتجفين .. علّهم يكونوا مطلبنا ..
وبينما نحن ذاهلون على أنفسنا وعن كل ما يدور حولنا .. إذ طرق آذاننا رنين جوال صديقي .. فاستفقنا ..
فإذا المتصل هو الأستاذ ( خالد شريـف .. ) من مكة ، فما إن رفع صديقي السماعة حتى هرع إليه خالد بخبرٍ هزّ كياننا ..
خبرٌ عزّ علينا مسمعه ، وأثر في القلب موقعه ..
خبرٌ جعل الدموع واكفة ، والقلوب واجفة ..
قال الأستاذ خالد : بأن صديقي وعزيزي ( عبدالله تاج ) توفي قبل ساعات ابتلعه جوف البحر بدون رحمة ولا شفقة .. بل أخذه على حين غرة ، من بين الجموع اختطفه ..
أما أنا فاستقبلت الخبر الفاجع بدموع حارة انحدرت على خدي انحدار العقد المنتثر ..
فكان لحظة اختطافه منظراً مريعاً هائلاً عظيماً .. هلعت له القلوب وزاغت له الأبصار وفاضت له الشؤون من آماقها لهفة وجزعاً ..
يحدثني من رأى منظر اختطافه عياناً ..
يقول : ( نزل الجميع إلى البحر الغادر ليمرحوا فوق فم الوحش الكاسر .. فكان الجميع في شغل .. حتى فقدناه من بين الجموع .. فرأيناه وقد ظهر على سطح الماء في منظر يقف عنده المرء متأملاً حال الدنيا .. يقول : فجمدنا أمام هذا المنظر الرهيب ساعة ذاهلين مستغرقين ، وكأننا قد انتقلنا إلى عالم آخر من عوالم الملأ الأعلى ، وكان كل شيء صامت جامد إلا ما كان من أمواج البحر تصل إلى آذاننا وكأنها الزئير المنبعث من حلوق الوحوش الضارية .. !
يا لله .. ما أسوأ هذا المنظر .. فلا يوجد بؤس في العالم أعظم من بؤس رجل أبصر فراق حبيبه بعينيه ..
جمت مصيبتنا وطنّ طنينها في سمع كل موحد وربابه
القلب منصدع لهول مصائب سدلت على الدنيا ستار حجابها
والفكر منشغل بهم دائم هل ياترى نيط الكرى بإيابه
..............................................................
بعد ما فقدته ليس لي في هذه الحياة التي أحياها هنا ما يروقني ويعجبني .. فإنني لا أزال حتى الساعة أعيش في قفرة موحشة لا يؤنسني فيها سوى ذلك الإنسان الذي غاب منظره عن نظري ..
فمنذ ذلك اليوم .. جعلت اسم ( الأسيف ) يلازمني .. أينما ذهبت ..
وسأرجع للقصة مرة أخرى فقد كتبتها في عجالة في إحدى المقاهي لما تذكرت هذا الموقف العصيب الذي قد مر بطيف خيالي فلم تسعفني الكلمات لأن الوقت يداهمني وكأنه متربص بأخذ روحي ..
أتمنى أن تعيشوا معي تلك الساعات الرهيبة التي لو مرت على إنسان يملك ضميراً مرهفاً مثلي ، لسل قلمه من غمده وكتب بكل ما يملك من مشاعر فيخرج لنا قصة بديعة من صنع الواقف عليها ..
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
اسم الموضوع : مصرع أركاني صليب في عام 1426 هـ
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.