الأسيف
مراقب عام
(( لواعج الأحزان وكوامن الأشجان ))
بالأمس يا صديقي عندما دخل المساء على الصباح ، ومدّ الظلام أجنحته السوداء على الكون ..أخذت بنفسي اليائسة إلى تحت ظلال تلك الأشجار الضخمة اليابسة ، لأعلق جسدي عليها ، وأرتاح من ضوضاء الحياة وضجيجها ، كي أرقد رقدة طويلة تحت أعماق الأرض ، لأخرج من وحشتي وكآبتي ..
فخير لي أن أكون واجماً صامتاً مشنوقاً بين الأشجار ، من أن أكون في مدينة متحجرة من مدن التأريخ القديم ..
هذه الكلمات التي كان يرددها صاحبي في اتصالي به بالأمس من تلك البلاد البعيدة الأغوار ..
ويكمل حديثه النابع من قلب مكلوم وفؤاد هدّه الآلام:
لا أخفي عليك عزيزي أنه ما تمرّ بي ليلة إلا وتحدثني نفسي بـ ( الانتحـــار ) ، فحال بيني وبين ذلك أنني إن قتلت نفسي قتلت معي تلك المسكينة التي لا ذنب لها ، وكثير على الولد أن يمدّ يده لقتل أمه ..لم أزل أكابد الشقاء والآلام في هذه الديار ما لا طاقة لمثلها أن يحتملها مثلي ، فدبّ اليأس في قلبي دبيب الموت في الحياة ..
قاطعته .. بسؤالي ، علّ بصيص الأمل في صراع الحياة يعود فيه:
حبيبي يا صديق القلب .. أريد أن أراك ، فكيف السبيل إليها ؟
أجابني بما هو آت :
لا أريدك أن تبصر وجهي البائس ، فقد هزل جسمي ، وشحب لوني ، وتغيّر ملامحي ، فإنك ستصعق يا صديقي ..ولا يعلم إلا الله كم ذرفت من الدموع ، وكابدت من الآلام منذ حلت تلك النكبة بي حتى اليوم ..
صديقي العزيز : هل تعلم أنه كلما أقبل الليل عليّ ، تمرّ أمام عيني صور تلك الساعات السعيدة التي قضيناها سوياً .. ثم لا تلبث تلك المناظر حتى تتلاشى وكأنها سحابة غيم سوداء ..
ثم أعود إلى الحاضر الشقي وأودع الماضي السعيد .. وأتذكر بأني صرت بعيداً عنك بُعد الشمس عن يد متناولها ، وأصبحت أعيش بين أقوام لا أعرفهم ، ولا أجد في نفسي لذة العيش بهم ، فأبتسم إليهم ابتسامات صفراء ، وأضحك معهم من قلبٍ باكٍ ، وأرتل أناشيد الهناء من فؤاد محترق ..
إنني يا عزيزي .. كلما تطلع الشمس من مكانها .. أذهب إلى أبواب المطاعم فأنظر من ثقبها بقايا الطعام ، فأترقب فضلاتها .. إنني اختنق جائعاً برائحة اللحم .. فأطلب الناس .. فلا أجد من يرحم جوعي وعطشي ..
إنّ بين جنبيّ همّاً يعتلج ، وكمداً يذهب باللب ، ويطير بشظايا القلب ، وناراً من الحزن متأججة مضطرمة ..
فقد أصبحت الحياة مظلمة في عيني ، ولقد بكيت كثيراً ، حتى جفت مدامعي ، وفكرة ( الانتحار ) تعاودني اليوم أكثر من ذي قبل .. لأني تذكرت بسماع صوتك أن لي أماً مكلومة ..
فهل لك يا صديقي أن تزورها وتقبلها على جبينها قبلة الوداع فلا أظنني أعيش على سطح هذه البسيطة يوماً آخراً ..
أرجوك .. إذهب إليها وبلغ لها تحياتي الحارة .. فلا أملك حيلة للوصول إليها دونك ..
قلت له .. يا صديقي : أنت زهرة يانعة في روض الشباب ، وابتسامة لامعة في ثغر الآمال ، وفجر مشرق في سماء الحياة ..
وما الحياة سوى جسر نمرّ به ** إلى المعاد وثم الخلد والوطن !
لا تلبث في ربى هذه الحياة إلا قليلاً .. حتى يمرّ بك ملك الموت فيختطفك من مكانك .. فلا تستعجل صديقي على الموت الزؤام .. فإن ما أصابك جرحت أكبادنا ، واتصالك بي ترك لي بين جنبيّ لوعة من الحزن ، لا أحسب أنها دون لوعتك التي تعتلج بين جنبيك من الحزن على نفسك .. حتى أصبحت أنا الذي أصابني مما أصبت به !
فوا رحمتاه لك صديقي مما بك اليوم !
أسأل الله أن يمنحك عيناً ثرة من الدمع لا ينضب ماءها ، فتصب منها كل ليلة سَجلاً على فؤادك الملتاع فتبرد غلته ، وتطفئ لوعته ..
فاسكب دموعك الحارة فهي ملجأ .. للمنكوبين المحزونين يوم لا يجدون لأنفسهم في مذاهب الأرض معيناً ولا ناصراً ..
فما أغلق السماعة ..
حتى أظلمت عيناي ، واكفهرّ وجهي ، وتداركت ضربات قلبي ، فسقطت كأنما أصابني دوار هائل .. فاحتضنني المقعد الذي كان بجواري ..
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : (( لواعج الأحزان وكوامن الأشجان )) (( 1 ))
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.
