مفهوم الدين
بين الحقيقة والتحريف !
د.عدنان علي رضا النحوي
كلمة " الدين " كلمةٌ عمّت الشرق والغرب والتاريخ البشري واللغات المختلفة ، والأمم والشعوب كلٌّ يدَّعي أن له ديناً ثم يعرض دينه الذي لديه .
ولكن هذه اللفظة في اللغات الأخرى غير العربيّة لها معنى خاص يختلف كلّ الاختلاف عن المعنى الذي تحمله هذه الكلمة في اللغة العربيّة . ومع ضغط الغزو الغربيّ على العالم الإسلامي ، غزواً فكريّاً وعسكريّاً ، تأثر كثير من المسلمين بالفكر الغربي ومصطلحاته ومدلولاتها ، واختلطت المعاني في كثير من الأذهان ، وحسب الكثيرون أن كلمة " Religion " في الإنجليزيّة مثلاً ، وأمثالها في لغات أخرى ، تحمل نفس معنى كلمة " دين " في الإسلام وفي اللغة العربية . ولكنّ الحقيقة هي أن هنالك فرقاً واسعاً جداً بين كلمتي " دين " و" Religion ".
كلمة " دين " في اللغة العربيَّة تحمل عِدَّةَ معانٍ وردت كلها في القرآن الكريم : الجزاء ، المكافأة ، ومنه : يوم الدين ، ومنه اسم الله سبحانه وتعالى الدّيان . والدين : الملك ، الحكم ، السلطان ، الطاعة ، والمدينة : الأمّة ، المدين : العبد ، والدين : الجمع .
والكلمة الإنجليزية " Religion " لا تحمل إلا معنى الطقوس ، ولا تحمل المعاني التي تحملها كلمة " الدين " ، فمن الخطأ أن نترجم كلمة " Religion " بـ " دين " ، فالفرق واسع ، ولا يوجد لدى غير العرب لفظة تعادل كلمة " دين " والإسلام دينٌ يحمل جميع المعاني السابقة ، لتجتمع كلها في المعنى الرئيس لكلمة دين : منهج كامل قام للحياة كلها ، الدنيا والآخرة :
( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ... )
[ المائدة : 3]
فمن مسؤولية المسلمين جميعاً أن يبيّنوا للعالم كله ما هو الإسلام الذي ارتضاه لعباده ، وما معنى كلمة دين ، وكيف أنها لا تُترْجم ولكن تشْرح معانيها ، ليكون الشرح جزءاً من التعريف بدين الإسلام ، الدين الذي يجمع أمور الحياة كلها: الاجتماعية ، والتربوية ، والنفسيّة ، والاقتصادية ، والسياسية ، والتشريع الكامل ، والحكم ونظامه ، والدولة وسلطانها ، والمسؤوليات للفرد والأسرة والأمة كلها ، وجميع التكاليف التي نزل بها الوحي الكريم على محمد r ، والشعائر ، والعبادة كلها ، والأمانة ، والعمارة ، والخلافة ، وتعاون الشعوب على أساس إقامة دين الله ، الإسلام ، والدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ الإسلام وتعهّد الناس كافة عليه ، لإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ومن النار إلى الجنّة بإذن الله تعالى ، وجهاداً في سبيل الله ، وسائر المسؤوليات التي وضعها الله أمانة في عنق الأمة المسلمة :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )
[ آل عمران :110]
ومن أهم المسؤوليات التي كلّف الله بها عباده أن يحملوا هذا الدين دعوة وبلاغاً وتعهّداً وجهاداً في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها . فهذه هي حقيقة الأمانة والعبادة والخلافة والعمارة التي خَلَقَ الله الإنسان للوفاء بها في هذه الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص ، ومن خلال عهد وميثاق ، ليُحاسَب عليها الناس يوم القيامة .
إنّ هذا الدين الإِسلامي جاء لهذه الغاية ، ليحَدِّد مُهمَّة الإِنسان في الأرض ، والغاية التي خَلقَه الله منها .
والناحية الأخرى التي ترتبط بهذه القضيّة هي أن الله سبحانه وتعالى ، وهو الواحد الأحد ، ما كان ليبعث لعباده أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها ، حين يريد الله من عباده كلهم أن يؤمنوا إيماناً واحداً ليدخلوا جميعاً في طاعته ورحمته ما أطاعوا والتزموا . فالدين عند الله واحد هو الإسلام ، دين جميع الأنبياء والرسل الذين ختموا بمحمد r .
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
[ آل عمران :19]
أما المصطلح الذي شاع بين الناس : " الأديان التوحيدية السماوية " ، وما شابهه ، فهو مصطلح خاطئ متناقض ، لا يتناسب مع معنى التوحيد ولا معنى الألوهية ، ولا معنى الدين ، فالدين عند الله دينٌ واحد هو الإسلام .
ومن ذلك نرى أنه خارجَ دين الله ، خارجَ التوحيد ، قد توجد أديان يصنعها البشر ، إِما من عند أنفسهم أو من تحريف دين الله مع الزمن . وهذه الأديان غير التوحيدية يمكن أن نضعها كلَّها في إطار " دين غير توحيدي "، لا يدعو إلى الله ورسوله ، ولا يتبنّى الوحي المنزّل من عند الله على رسله الذين ختموا بمحمد r، خاتم الأنبياء والمرسلين . فهنالك إذاً دين الله ، دين التوحيد ، دين واحد جاء برسالات متعدّدة مع الرسل والأنبياء ، ودين غير دين الله :
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )
[ الكافرون :1ـ6]
مفاصلةٌ وحسمٌ في الدين والمعتقد ، لا مجال فيه للمراءاة أو المجاملات أو المساومات : دين الله دين واحد هو الإسلام ، ودين الكافرين ، ولا يوجد أديان متعددة ، إلا في نطاق دين الكافرين !
هذا هو الدين الحق الذي يبيّن للإنسان كلَّ ما يحتاجه حتى ينجو من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة .
نعم ! هذا هو الدين الذي جعله الله رحمةً منه لعباده ، وفضلاً منه عليهم ، وهدى ونوراً . فلا تجد فيه تناقضاً بل تماسكاً ، وتجده ميسَّراً للذكر لمن ملك بفضل الله مفتاحين يفتحان له كتاب الله بإذن الله وبهدايته . هذان المفتاحان هما : إتقان اللغة العربية وصفاء الإيمان وصدقه . (1) فإذا توافرا عند أي إنسان فإنَّ كتاب الله تعالى يُفتح له بهداية من الله . ولهذين المفتاحين آيات وأحاديث تدل عليهما وتبين أثرهما في تيسير القرآن للذكر :
( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً )
[ الإسراء : 82]
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) [ فصلت : 44 ]
فلا يُعقل أبداً أن يكون الدين طقوساً تؤدَّى على صورة ما ، تنفصل بعد ذلك عن واقع الحياة الدنيا وأحداثها وميادينها ، ثمَّ يصبح الإنسان بعد هذا الانفصال هو الذي يقرر، يعبد العقل حيناً ، أو ما يسمّيه عقلاً ، أو يعبد الأهواء والشهوات ، أو يعبد المصالح المتضاربة المتنافسة ، أو يعبد الأوثان وما يوحي به شياطين الإنس والجن .
هذا هو الدين ! منهج حياة متكامل ، يصل الدنيا بالآخرة ، ليصبح عمل المؤمن الصادق كلُّه عبادةً صادقةً لله ، أكلُه وشربُه وسعيُه ، وجهادُه ، ورضاه وغضبُه ، وحبُّه وكراهيتُه ، وعلمُه ، وعملُه ، كلُّه عبادةً خالصةً لله إذا صدقتْ النيَّة لله ، وإذا خضع العمل كلّه لشرع الله ، شرطان لا يُغني أحدهما عن الآخر ، شرطان يجب أن يعملا معاً في وقت واحد .
هذا هو الدين ! نجاةٌ في الدنيا والآخرة . بدونه يصبح الناسُ وُحُوشاً ، يفتك بعضهم ببعض ، ويهلك بعضهم بعضاً . لا تقوم بينهم عدالة ولا أمانة ، ولا حُرِّية ولا مساواة ، إلا من حيث الشعارات يطلقها المجرمون الوحوش ، ليزيّنوا بها باطلهم ، وليفتحوا بها ثروات الأمم لينهبوها ، وليستأثر المجرمون الوحوش بخيراتها ، ويَدَعُو الناس فقراء عالة عليهم !
هذا هو الدين الحق ، دين الله ، دين الإسلام ، الدين الذي يقيم الحقَّ في الأرض بين الناس ، ويقيم العدل الصادق الأمين ، ويقيم الحريَّة المنضبطة لتوفّر الحريّة المنضبطة ، لتحقّق المساواة العادلة بين الناس .
وبغير هذا الدين الحق لا تقوم عدالة أبداً ، ولا حريّة ، ولا مساواة ، فهذا كلّه يقيمه شرع الله .
كثير من الناس غاب عنهم التصوّر السليم للدين ، ولمهمته في الحياة ، فاضطربت تصوّرات الناس ، أو بعض الناس اضطراباً واسعاً . فمنهم من جعل من الدين ومن معنى العبادة الطقوس والشعائر فقط . ومنهم من نادى بعزل الدين عن السياسة والحكم ، أو عزل السياسة والحكم عن الدين . ومثل هذه التصوُّرات ابتدأت في الغرب على أثر اصطدام النصرانية بالوثنية ، ثمَّ اصطدام الكنيسة برجال العلم وبالدولة والحكام ، ثمَّ أخذت تمتدُّ إلى العالم الإسلامي بين المسلمين، حين انتشر الجهلُ بالكتاب والسنَّة واللغة العربيَّة ، وقويت دعاية الغرب وغزوه الفكري والعسكري .
ومن أهمِّ التصوّرات الدينية التي غابت عن الناس معرفة الإنسان لمهمته في الحياة الدنيا ، وللتكاليف الربّانيّة التي أمره الله بالوفاء بها ، والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله يوم القيامة . نسي الناس هذه المهمة الحقيقية ولهثوا وراء مصالحهم الدنيوية حتى يوافيهم الأجل وهم لم يوفوا بعهدهم مع الله ولا بالأمانة ولا بالعبادة ولا بحق الخلافة في الأرض .
وإذا كان القرآن الكريم قد أوجز مهمة الإنسان التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا بمصطلحات أربع : العبادة والأمانة والخلافة والعمارة ، فإنه مع هذا الإيجاز فصَّل المهمّة تفصيلاً كاملاً ، ثمَّ جمعت المهمة كلها في نشر دين الله في الأرض ، ودعوة الناس كافَّة إليه ، حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى . ومن أجل تحقيق ذلك شرع الله القواعد والوسائل والأساليب وفصّلها حتى يتيسَّر للإنسان الوفاء .
فمعرفة الدين وفهمه ، وفهم تصوُّراته كاملةً سليمةً من مصدره الحق ـ المنهاج الربَّاني ـ ، أمرٌ أساسيٌّ في حياة الإنسان . وبغير هذا الفهم والعلم والالتزام يهلك الإنسان .
إنها مهمّة الإنسان المؤمن ، الإنسان الداعية الصادق ، أن يوفي بالأمانة بالتبليغ والتعهد وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ومن الهلاك إلى النجاة . وإن أي امتداد للفتنة وسوء فهم هذا الدين ، يحمل المسلمون مسؤوليّته عن ذلك ، ويحمل الدعاة والعلماء مسؤولية أكبر .
اسم الموضوع : مفهوم الدين بين الحقيقة والتحريف !
|
المصدر : .: أشتات وشذرات :.
