فتى أراكان
, مراقب قسم ساحة الرأي
ذِكْرَياتُ مُعَلِّم في مَدْرَسَةٍ خَيْرِيَّة ..
قبل أربع سنين قدِمتُها .. هي مدة خدمتي لها .. كنت شاهداً خلالها .. على خطواتها التطويرية داخلها .. وقفزاتها النوعية خارجها .. وكنت شاهداً خلالها .. على ولادة المتوسطة فيها .. وآسى الآن على فراقها .. إذا اضطررت لأمر ما إلى تركها .. قبل أن أشهد ولادة الثانوية بها .. كيف جئتها؟ كيف عُيِّنت بها؟ ماذا كان دوري فيها؟ حسناً .. إليكم مجمل قصتي معها .
تعرّض صديقي عدنان لحادث مروري كبير قبل انتهاء العام الدراسي بشهرين تقريباً .. أصيب بجروح وكدَمات قوية .. تلفت سيارته بالكلية .. جلس في البيت محبوساً يتعالج ولا يخرج .. دعاني لأخذ جدوله وتغطية حصصه .. درّست مكانه في المدرسة شهراً .. حتى إذا عوفي ورجع .. أظهرت رغبتي في مغادرتها .. فإذا بالمدير ووكيله يلحّان عليّ أنْ أقِم بالمدرسة ولا تتركْها .. فاستجبت وأقمت .. ودرّست واجتهدت .. ومن هنا ابتدأت قصتي بالمدرسة .. أهي قصة جميلة؟ بالتأكيد هي من القصص الجميلة في حياتي ، غير أني لم أقرأها ولم أكتبها .. وإنما عشت فيها .. وصنعت بيديّ بعض أحداثها .. وهأنذا اليوم أستعيد لقطات منها .. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
كنت قبل أن أدرِّس فيها .. أُكثِر من القراءة والاطلاع في الكتب والمجلات .. قرأت أشياء في التربية مثّلتْ لي زاداً ورصيداً لا بأس به في مواجهة أعباء المهنة ومشكلاتها .. حاولت جَهدي أن أمارس المهنة على هديها .. وبوحي منها .. دعوت الإدارة وزملائي إلى امتلاك ثقافة تربوية مناسبة .. بالقراءة في الكتب والمجلات المتخصِّصة .. والاستماع إلى الأشرطة التربوية الهادفة .. أبديت لهم استعدادي لإعارتهم بعض ما عندي منها .. كنت أعلم أنهم حريصون على إيصال الخير ونفع الطلاب قدر ما استطاعوا .. ولكن تنقصهم الخبرة والثقافة .. ويعوزهم الاطلاع والمتابعة .. وواأسفاه ! لم يجئني أحدهم طالباً شيئاً من ذلك إلى يومي هذا !!!
دعوت الإدارة إلى فتح مكتبة في المدرسة .. إذ كيف تكون بلا مكتبة مدرسة؟ وكلما أعدت عليها الطلب وألححت ؛ أظهرت لي رغبتها الصادقة في تحقيق ذلك واكتفت ! ومازالت المدرسة بعد أربع سنوات من دعوتي إلى فتح مكتبة فيها تفتقر إلى مكتبة . وحتى لا أظلمها وأقسو عليها ، فلست أظنها الوحيدة في ذلك ؛ بل الكثير من مدارسنا الخيرية تعاني من هذا الأمر ولا يضايقها ذلك في شيء ولا يضيرها ألبتة ..
ولذلك كان العمل الذي قدّمتْه المدرسة هذا العام (1429هـ) ، وشاركت به في مسابقة (أجمل أوبريت) عن المرحلة المتوسطة حول هذا الموضوع الأثير لديّ : موضوع القراءة والكتب ، والدعوة إلى إنشاء المكتبات العامة لجمهور الناس في البيوت والمدارس والمساجد في الأحياء البرماوية الفقيرة في كثير من جوانبها ، وأبرزها هذا الجانب الحيوي وربما المصيري ! وكان عنوان (الأوبريت) على لسان طفل برماوي : (أريد أن أقرأ ولكن ..) .
(1)
في نهاية السنة الأولى من عملي بالمدرسة أقامت المدرسة لأول مرة منذ تأسيسها احتفالاً كبيراً على مستوى المدارس الخيرية للدفعة الأولى من خِرِّيجيها بالمرحلة الابتدائية ، وكان ذلك بفضل الله فرصة لإبراز موهبتي في الكتابة الأدبية ؛ حيث قدّمتْ فرقة المسرح بالمدرسة مسرحيتين هادفتين أمام جمهور الحاضرين في الحفل كلتاهما من إنشائي أولاهما في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم تزامناً مع الأزمة التي افتعلتها الدانمارك في تلك الأيام ، والثانية في تقديم صورة حية عن معاناة المسلمين في بلادنا (أراكان) ، إلى جانب الكلمات التي ألقيت في الحفل من قبل المدير وعمدة الحي وكلمة المتخرجين ، وكلها كانت من إعدادي ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..(2)
قفز المقصف بشهادة الإدارة قفزة لم تكن تحلم بمثلها قبل أشرف عليه وتعهد به إليّ . كان رأسمالي دائماً حين أبدأ العمل في المقصف بداية كل سنة ألفاً وخمس مئة (1500) ريال فقط ، غدتْ ثلاثة آلاف وخمس مئة (3500) ريال في نهاية السنة الأولى (مع أن الخبز والعصير كليهما أبيعهما للطلاب بريال واحد فقط!) ، وخمسة آلاف (5000) ريال في نهاية السنة الثانية ، وسبعة آلاف (7000) ريال في نهاية السنة الثالثة ، وما كانت تصل إلى مئين (أي : مئات) قبل ذلك فضلاً عن ألوف ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
وكنت بحمد الله خلال السنتين الثانية والثالثة أحدثت نظاماً في توزيع إفطار مجاني لبعض الطلبة المحتاجين ممن أراهم لا يكادون يفطرون في الفسحة مطلقاً طوال أيام السنة الدراسية باسم (مشروع عبد الله للإفطار المدرسي) ، وتلك قصة أخرى كتبتها ، وسجّلت تفاصيلها ، موجودة بين أوراقي يطول هنا ذكرها ..
(3)
في السنة الثالثة من عملي بالمدرسة كانت المدرسة على موعد مع العمل خارج النطاق المدرسي . أعني بذلك خروجها من شَرْنَقَتها ونشاطها الداخلي إلى العالم المحيط بها ، إلى العالم الواسع من حولها بنشاطها الخارجي .في هذه السنة تشرّفت المدرسة لأول مرة بإعداد وتنظيم مسابقة القرآن الكريم ضمن مسابقات المدارس الخيرية البرماوية بعد ست سنوات من عمر المسابقة كانت (مدرسة السلام الخيرية) تحتفظ لنفسها بذلك الشرف الكبير طوال تلك السنين ، وكانت من أفضل المسابقات جميعاً إن لم تكن أفضلها على الإطلاق إعداداً وتنظيماً ، وموضوعاً وتنافساً ..
ووفِّقت المدرسة بحمد الله بعد شهر مُضْنٍ من العمل الدؤوب والسهر المتواصل في إثبات جدارتها بنيل هذا الشرف الكبير ، وبأنها لا تقل عن سابقتها إن لم تتفوق عليها في ذلك ، وهذا ما ستفعله بإذن الله في مسابقة العام الذي يلي هذا العام ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
أما الموعد الآخر الذي خرجت فيه المدرسة بنشاطها من محيطها الداخلي إلى العالم الخارجي فهو مشاركتها القوية البارزة بأحد معلميها في الحفل الختامي لأنشطة المدارس الخيرية البرماوية من هذه السنة (1428هـ) ؛ إذ كان ما يسمى بسيناريو وحوار (الأوبريت) الذي قدمته اللجنة الفنية لجمهور الحاضرين في الحفل بعنوان : (دام خيركِ يا بلاد الحرمين) كان من إعداد هذا المعلم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
(4)
في السنة الرابعة وربما الأخيرة من عملي بهذه المدرسة شهدت المدرسة بل المدارس الخيرية الأربعون كلها حدثاً استثنائياً كبيراً في تاريخ مسابقاتها المتنوعة ! فلأول مرة يسعد بحضور مسابقة من مسابقاتها مسؤولون كبار في الدولة؛ بل يتشرفون بلك ويعتزون : أ. بكر بن إبراهيم بصفر .. اللواء تركي بن إبراهيم القناوي .. العقيد محمد المنشاوي .. الشيخ صالح بن يوسف الزهراني .. شيخ الجالية البرماوية ، وما يقرب من عشرين من مدراء المدارس الخيرية البرماوية ؛ لأنها (مسابقة القرآن الكريم تلاوة وحفظاً) ، بإعداد وتنظيم من مدرستي ، للمرة الثانية على التوالي ولا فخر .. قفزت المدرسة بالمسابقة قفزة نوعية هائلة .. نقلتها من الصورة القديمة المعتادة إلى شيء إبداعي آخر لا سابقة له بشهادة الشهود من الحاضرين في المسابقة : قاعة فخمة للاحتفالات .. توقيت مختلف عن توقيتات السنوات الماضية .. مسؤولون كبار في الدولة .. كلمات متميزة لضيوف الشرف .. تقسيم رائع للصالة بين المتسابقين ولجان التحكيم ومنسوبي المدارس وضيوف الشرف .. التقريع لكل متسابق قبل تقديم تلاوته .. لوحة فنية باسم كل متسابق .. نظام إبداعي مستحدث للتصويت على تلاوة المتسابق من قبل المعلمين في المدارس الأربعين .. دفتر كوبونات لكل عضو في لجنة التصويت .. إفطار وغداء لجميع الحاضرين في المسابقة .. شعار تربوي هادف للمسابقة يدعو إلى تدبر القرآن ... كل هذا وغيره مما امتازت به المسابقة هذا العام عما كانت عليه في دوراتها السابقة ، وليس الخبر كالعيان ! غير أننا مع الأسف لم ننجح في إبقاء المودة التي كانت بيننا - معشر المعلمين - في المدرسة المنظِّمة .. ثمة ثغرات نفذ إلينا الشيطان منها بعد انتهاء المسابقة ، وتأثّرت بذلك علاقاتنا شيئاً ما فترة من الوقت ، والحمد لله أنها لم تدم طويلاً ؛ بل عادت المياه إلى مجاريها كما كانت ، وربما خيراً مما كانت ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
في السنوات الأربع من عملي بالمدرسة خضت حرباً شرسة مع الإدارة أحياناً ، ومع بعض زملائي في المدرسة أحياناً أُخَر ، أقف فيها منافحاً مدافعاً بقوة عن الأجساد الغضّة الطرية ، والنفوس الطاهرة البريئة للصبية والأطفال من طلاب المدرسة .
أغلب البيوت في أحيائنا عاجزة عن تربية أطفالها وتأديبهم دون اللجوء إلى العنف والزجر والصراخ والتهديد والتقريع والضرب ؛ لأنها في الأساس بيوت غير مؤهّلة لأداء دور تربوي صحيح يستمدّ مبادئه ويقتبس قيمه من الهدي النبوي الرائد في التربية . أما أن تتضاهى معها في ذلك مدارسنا بل تتفوق عليها أحياناً فذلك ما يتنافى مع أبسط المبادئ التي يشتمل عليها مفهوم المدرسة والتدريس في أذهان المربين والتربويين .
المدرسة خلاف البيت يُفترض منها أن تكون عالمة مثقفة مستنيرة ، مهتدية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، عطوف ودود شفوق ، كريمة حليمة رحيمة ، حازمة صارمة أحياناً ، . وهي بكل ذلك قوية الشخصية بحيث لا تضطر معها إلى اللجوء إلى تلك الأساليب القديمة البالية ، أساليب الجاهلية الأولى . ومع ذلك فقد وجدت في مدرستي من الإدارة حيناً ، ومن المعلمين أحياناً من تغيب عنه هذه المبادئ والأبجديات الأولى في عالم التربية ؛ بحيث أدخل معهم مرة في نقاشات قصيرة هادئة ، وجدال طويل حادّ مرات ، يتطور أحياناً إلى خصام شخصي عنيف نتراشق فيه ونتقاذف ، طبعاً بالكلمات والعبارات ، لا بالصفعات وباللكمات !!! ومازال الطلاب في مدرستي يُضربون ويُزجرون ويُعنّفون ، ويساء معاملتهم إلى يومي هذا . وإنني أتساءل الآن بحيرة : أهي الحال كذلك في كل مدارسنا الخيرية؟!!
عزيزي القارئ : إنني أدعوك بإلحاح إلى المبادرة بكتابة ذكرياتك الجميلة وغير الجميلة إذا كنت مثلي معلماً في إحدى هذه المدارس . لا أظنك تخالفني في كونها تجربة مثيرة تستحق منا التسجيل والتدوين ، لأنفسنا معشر المعلمين أولاً ، ثم لغيرنا من شرائح المجتمع ثانياً . وإنني في انتظارك .. على صفحات منتدانا المبارك .
اسم الموضوع : ذكريات معلم في مدرسة خيرية
|
المصدر : .: مدارسنا الخيرية :.


