الحلقة الأولى
فتوى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ -رحمه الله تعالى- في حكم (شرب الدخان):
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
وبعد: فقد سئلت عن حكم (التنباك) الذي أولع بشربه كثير من الجهال والسفهاء مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه نحن ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ومشايخهم وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية وسائر المحققين سواهم من العلماء في عامة الأمصار من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها حتى يومنا هذا، استنادا على الأصول الشرعية، والقواعد المرعية. وكنت رأيت عدم إجابة السائل لذلك، لكن نظرا إلى أن للسائل حقا وإلى فشوّ تعاطي هذا الخبيث بما لا يخطر على البال آثرت الجواب على ذلك.
فأقول: لا ريب في خبث الدخان ونتنه، وإسكاره أحيانا، وتفتيره وتحريمه بالنقل الصحيح، والعقل الصريح، وكلام الأطباء المعتبرين.
أما النقل الصحيح فقول الله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)
وفي الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: '' كل مسكر خمر وكل خمر حرام '' ولمسلم : '' وكل مسكر حرام ''،
وروى أبو داود والترمذي وحسنه ، عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: '' كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ''.
وكل من الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة دال على تحريمه ؛ فإنه خبيث ، مسكر تارة ، ومفتّر أخرى ، لا يماري في ذلك إلا مكابر للحس والواقع. ولا ريب أيضا في إفادتها تحريم ما عداه من المسكرات والمفترات.
وروى الإمام أحمد وأبو داود ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر و
مفتِّر ) قال الحافظ الزين العراقي : إسناده صحيح ، وصححه السيوطي في (الجامع الصغير).
وفيه من إضاعة المال واستهلاك المبالغ الطائلة المسببة لضلع الدين الحامل على بيع كثير من ضروريات الحياة في هذا السبيل ما لا يسع أحدا إنكاره.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: '' إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ''.
يوضحه ما سنذكره من كلام العلماء من أرباب المذاهب الأربعة ؛ فممن ذكر تحريمه من فقهاء
الحنفية: الشيخ محمد العيني، ذكر في رسالته تحريم التدخين من أربعة أوجه:
أحدها: كونه مضرا للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين، وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقا.
ثانيها: كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم ، المنهي عن استعمالها شرعا ؛ لحديث أحمد عن أم سلمة : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر )، وهو مفتر باتفاق الأطباء ، وكلامهم حجة في ذلك وأمثالِه ، باتفاق الفقهاء سلفا وخلفا.
ثالثها: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها، بل وتؤذي الملائكة المكرمين. وقد روى الشيخان في (صحيحيهما)، عن جابر مرفوعا: ( من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته )، ومعلوم أن رائحة التدخين ليست أقل كراهية من رائحة الثوم والبصل. وفي (الصحيحين) أيضا عن جابر - رضي الله عنه -: (أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس )، وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: '' من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ''، رواه الطبراني في (الأوسط) عن أنس - رضي الله عنه - بإسناد حسن.
رابعها: كونه سَرَفا ؛ إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر، بل فيه الضرر المحقق بإخبار أهل الخبرة.
ومنهم أبو الحسن المصري الحنفي، قال ما نصه: الآثار النقلية الصحيحة، والدلائل العقلية الصريحة تعلن بتحريم الدخان. وكان حدوثه في حدود الألف، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس، وأتى به رجل يهودي يزعم أنه حكيم إلى أرض المغرب، ودعا الناس إليه، وأول من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه ( الانكلين ) من النصارى . وأول من أخرجه ببلاد السودان المجوس، ثم جلب إلى مصر والحجاز وسائر الأقطار. وقد نهى الله عن كل مسكر.
وإن قيل: إنه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه الباطنة والظاهرة، والمراد بالإسكار مطلق تغطية العقل وإن لم تكن معه الشدة المطربة، ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر. وقد روى الإمام أحمدوأبو داودعن أم سلمة : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل مسكر ومفتر ).
وقال العلماء: المفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف، وحسبك بهذا الحديث دليلا على تحريمه ، وأنه يضر بالبدن والروح ويفسد القلب ويضعف القوى، ويغير اللون بالصفرة.
والأطباء مجمعون على أنه مضر، ويضر بالبدن ، والمروءة ، والعرض ، والمال ؛ لأن فيه التشبه بالفسقة ؛ لأنه لا يشربه غالبا إلا الفساق والأنذال ، ورائحة فم شاربه خبيثة اهـ.
ومن فقهاء
الحنابلة: الشيخ: عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قدس الله أرواحهم -، قال في أثناء جوابه على (التنباك) بعدما سرد نصوص تحريم المسكر، وذكر كلام أهل العلم في تعريف الإسكار ما نصه: وبما ذكرنا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام أهل العلم ، يتبين لك تحريم التتن الذي كثر في هذا الزمان استعماله ، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات، خصوصا إذا أكثر منه ، أو أقام يوما أو يومين لا يشربه ثم شربه فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل؛ وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين - رحمه الله - عن (التنباك) بقوله: الذي نرى فيه: التحريم ؛ لعلتين:
إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه أو أكثر، وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير. وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا، أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل مسكر ومفتر .
العلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده، واحتج العلماء بقوله تعالى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ). وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالـجُعل لا يستخبث العذرة.
ومن فقهاء
الشافعية: الشيخ الشهير بـ( النجم ) الغزي الشافعي، قال ما نصه: والتوتون الذي حدث ، وكان حدوثه بدمشق سنة خمس عشرة بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر، وإن سلم له فإنه مفتر، وهو حرام ؛ لحديث أحمد يسنده، عن أم سلمة، قالت: ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر ) قال: ( وليس من الكبائر تناوله المرة أو المرتين )، أي بل الإصرار عليه يكون كبيرة كسائر الصغائر. وقد ذكر بعض العلماء: أن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بواحدة من خمسة أشياء: إحداها: الإصرار عليها. والثانية: التهاون بها، وهو الاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها. والثالثة: الفرح والسرور بها. والرابعة: التفاخر بها بين الناس. والخامسة: صدورها من عالم أو ممن يقتدى به.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء
المالكية بقوله: لا تجوز إمامة من يشرب التنباك ، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر. اهـ.
وممن حرم الدخان ونهى عنه: من علماء مصر : الشيخ: أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي . وشيخ المالكية: إبراهيم اللقاني . ومن علماء المغرب : أبو الغيث القشاش المالكي . ومن علماء دمشق : النجم الغزي العامري الشافعي . ومن علماء اليمن : إبراهيم بن جمعان، وتلميذه أبو بكر الأهدل . ومن علماء الحرمين : المحقق: عبد الملك العصامي، وتلميذه: محمد بن علان شارح (رياض الصالحين)، والسيد عمر البصري. وفي الديار الرومية: الشيخ : محمد الخواجة ، وعيسى الشهادي الحنفي ، ومكي بن فروخ ، والسيد سعد البلخي والمدني ، ومحمد البرزنجي المدني الشافعي ، وقال: رأيت من يتعاطاه عند النزع يقولون له: قل: لا إله إلا الله. فيقول: هذا تتن حار.
كل هؤلاء من علماء الأمة وأكابر الأئمة، أفتوا بتحريمه ونهوا عنه وعن تعاطيه.