- إنضم
- 27 أبريل 2009
-
- المشاركات
- 777
-
- مستوى التفاعل
- 1
-
- النقاط
- 0
-
- الإقامة
- مبتدأ مرفوع دائماً
-
- الموقع الالكتروني
- www.almnhjalrbani.com
وإذا تقرر ضابط الكبيرة ، فهاهنا أمر ينبغي التفطّن له ، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء ، والخوف ، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر ، بل يجعلها في أعلى رتبها .
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب ، وهو قدر زائد على مجرد الفعل ... ))
وأما ضابط الإصرار على الصغيرة ، فكما قال العزّ بن عبد السلام : (( إذا تكرّرت منه الصغيرة تكرراً يشعر بقلة مبالات بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر )) .
ومن خلال استقراء جملة من النصوص والآثار ، فإننا نسوق طرفاً من الإطلاقات على هذا الفسق العملي ، كما يلي :
فيسمى القاذف فسقًا، كما جاء في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) ( النور : 4) .
ويطلق على الكاذب فاسقًا ، كما في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) ( الحجرات : 6) .
ويقول اللالكائي : عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سباب المسلم فسوق ))
إن المسلم إذا سبّ المسلم وقذفه فقد كذب ، والكذاب فاسق ، فيزول عنه اسم الإيمان
* وتسمى محظورات الإحرام فسوقًا، حيث يقول تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.. )) ( البقرة : 197) . فالفسوق ها هنا محظورات الإحرام كما اختاره ابن جرير وغيره.
* ويعد التنابز بالألقاب فسوقًا، كما في قوله تعالى: (( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ) ( الحجرات : 11) .
* وكما في الحديث السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق )) .
وسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم كافر النعمة فاسقاً ، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الفسّاق هم أهل النار )) قيل : يا رسول الله ! ومَن الفسَّاق ؟ قال : (( النساء )) قال رجل : يا رسول الله أولسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا ؟ قال : (( بلى ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن ، وإذا ابتلين لم يصبرن ))
فيجوز أن يسمى الفاسق كافر نعمة ، حيث أطلقته الشريعة
*ويسمى السارق فاسقاً ، حيث سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقيل له : ما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ، ويسرقون أعلاقنا ؟ قال : حذيفة : ( أولئك الفساق) .
* ويعدّ صاحب النفاق الأصغر فاسقاً
* يقول ابن تيمية : (( يسمى الفاسق منافقاً النفاق الأصغر ، لا النفاق الأكبر ، والنفاق يُطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر ، وعلى النفاق الأصغره ، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات ))
* ويقول _أيضاً_ : (( وإن أظهر أنه صادق، أو موف،أوأمين،وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقاً ))
ويدل على ذلك جملة من الآثار : منها (( أن هرم بن حيان قال : إياكم والعالم الفاسق ، فبلغ عمر بن الخطاب ، فكتب إليه وأشفق منها ! ما العالم الفاسق ؟ قال : فكتب إليه هرم : يا أمير المؤمنين ! والله ما أدرت به إلا الخير ، يكون إمام يتكلم بالعلم ، ويعمل بالفسق ، فيشبه على الناس فيضلون ))
وسمّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الفاسق منافقاً ، فقال : (( إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ؟ قالوا : وكيف يكون المنافق عليماً ، قال : يتكلّم بالحكمة ، ويعمل بالجور ، أو قال المنكر ))
وسئل حذيفة بن اليمان : مَنِ المنافق؟ قال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة فويسقًا، فقال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ )) قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ: ((الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ))
والرويبضة تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها .
وفي الجملة، فقد يقال: إن هذه المعاصي التي سميت فسقًا عمليًا أعظم ممن دونها من معاصٍ لم تسم فسقًا، وكما قال البيضاوي: (( والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمته كأنه متجاوز عن حده )) .
وقال الألوسي : الفاسق : 0 المتمرّد من معصية ما ))
وإضافة إلى ما سبق ، فإن فسق العمل نوعان 0 باعتبار آخر كما بيّنه ابن القيّم بقوله : ( فسق العمل نوعان : مقرون بالعصيان ، ومفرد ، فالمقرون بالعصيان : هو ارتكاب ما نهى الله عنه ، والعصيان : هو عصيان أمره ، قال تعالى : (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ )) ((الحجرات : 7)) .
وكما قال تعالى : ((لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) (التحريم :6).
وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام - : (( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )) ( طه : 92-93) .
فالفسق أخصّ بارتكاب النهي ، ولهذا يطلق عليه كثيراً ، كقوله تعالى : (( وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ )) ( البقرة : 282) .
والمعصية أخصّ بمخالفة الأمر ، ويطلق كل منهما على صاحبه ، كقوله تعالى : (( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)) ( الكهف : 50) .
فسمى مخالفته للأمر فسقاً ، وقال : (( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى )) (طه :121) .
فسمى ارتكابه للنهي معصية ، فهذا عند الإفراد ، فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر ، والآخر لمخالفة النهي .
وفي ختام هذه الوريقات ننبه إلى ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة ، ومخالفيهم .
فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته(53)، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة(54).
يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ (( ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. )) ( البقرة : 178)
وقال سبحانه : (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[9]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..)) ( الحجرات : 9،10) .
ولا يسلبون الفاسق الملّي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: (( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.)) ( النساء : 92) .
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً.)) ( الأنفال : 2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذات شرف يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))
ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطي الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم
فارتكاب الكبير يعدّ فسقاً ينافي كمال الإيمان الواجب ، وهذا الفسق يمكن اجتماعه مع الإيمان ، وصاحبه متعرّض للوعيد ، فأهل السنة يقولون بجواز التبعض في الاسم والحكم ، بمعنى أن يكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه ، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه
وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة، فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:
فأما الأشاعرة: فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمنًا بإطلاق، ويعتبرونه مؤمنًا حقًا.
كما قال أحدهم وهو الآمدي - : (( فعلى هذا مهما كان مصدقاً بالجنان وإن أخلّ بشيء من الأركان ، فهو مؤمن حقّاً ، وانتفاء الكفر عنه واجب ، وإن صح تسميته فاسقاً بالنسبة إلى ما أخلّ به من الطاعات ، وارتكب من المنهيّات ))
وسمى الإيجي مرتكب الكبيرة مؤمناً بإطلاق
وقد سبق أن ذكرنا أن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ لا يعطي الإيمان المطلق، فلا يقال عن الزاني، أو شارب الخمر ـ مثلًا ـ: إنه مؤمن بإطلاق، ولكن نقيده، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
* وقد عاب إبراهيم النخعي رحمه الله تلك المقولة ، فقال : (( ما أعلم قوماً أحمق في رأيهم من هذه المرجئة ؛ لأنهم يقولون : مؤمن ضالّ ، ومؤمن فاسق )) .
وعلى كلٍّ فإن مقالة أولئك الأشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن الإيمان هو التصديق، حيث أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان.
أما المعتزلة: فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة، فالفاسق عندهم ليس مؤمنًا، كما أنه ليس كافرًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الأصم .
يقول عبد الجبار الهمداني المعتزلي :
(( صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ، لا يكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنما يسمى فاسقاً ، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ، ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث ، وهو المنزلة بين المنزليتن )) ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاسقًا غير مؤمن، لذا حكموا عليه بالخلود في النار.
وكما قال عبد الجبار المعتزلي : (( والذي يدل على أن الفاسق يُخلّد في النار ، ويُعذّب فيها أبداً ما ذكرناه من عمومات الوعيد ، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، تدل على أنه يُخلّد ))
وقد تبع الزيديةُ المعتزلة في مفهوم الفسق ، ووافقهوهم على ما سبق ذكره
هذا ما تيسر جمعه في هذا المبحث، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة الثانية
النفاق والمنافقون تنبيهات وأخطار
إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنـهـم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علـم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟،وكم لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شـبـهـهـم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، (( أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) [البقرة:12].
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب ، وهو قدر زائد على مجرد الفعل ... ))
وأما ضابط الإصرار على الصغيرة ، فكما قال العزّ بن عبد السلام : (( إذا تكرّرت منه الصغيرة تكرراً يشعر بقلة مبالات بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر )) .
ومن خلال استقراء جملة من النصوص والآثار ، فإننا نسوق طرفاً من الإطلاقات على هذا الفسق العملي ، كما يلي :
فيسمى القاذف فسقًا، كما جاء في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) ( النور : 4) .
ويطلق على الكاذب فاسقًا ، كما في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) ( الحجرات : 6) .
ويقول اللالكائي : عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سباب المسلم فسوق ))
إن المسلم إذا سبّ المسلم وقذفه فقد كذب ، والكذاب فاسق ، فيزول عنه اسم الإيمان
* وتسمى محظورات الإحرام فسوقًا، حيث يقول تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.. )) ( البقرة : 197) . فالفسوق ها هنا محظورات الإحرام كما اختاره ابن جرير وغيره.
* ويعد التنابز بالألقاب فسوقًا، كما في قوله تعالى: (( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ) ( الحجرات : 11) .
* وكما في الحديث السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق )) .
وسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم كافر النعمة فاسقاً ، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الفسّاق هم أهل النار )) قيل : يا رسول الله ! ومَن الفسَّاق ؟ قال : (( النساء )) قال رجل : يا رسول الله أولسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا ؟ قال : (( بلى ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن ، وإذا ابتلين لم يصبرن ))
فيجوز أن يسمى الفاسق كافر نعمة ، حيث أطلقته الشريعة
*ويسمى السارق فاسقاً ، حيث سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقيل له : ما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ، ويسرقون أعلاقنا ؟ قال : حذيفة : ( أولئك الفساق) .
* ويعدّ صاحب النفاق الأصغر فاسقاً
* يقول ابن تيمية : (( يسمى الفاسق منافقاً النفاق الأصغر ، لا النفاق الأكبر ، والنفاق يُطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر ، وعلى النفاق الأصغره ، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات ))
* ويقول _أيضاً_ : (( وإن أظهر أنه صادق، أو موف،أوأمين،وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقاً ))
ويدل على ذلك جملة من الآثار : منها (( أن هرم بن حيان قال : إياكم والعالم الفاسق ، فبلغ عمر بن الخطاب ، فكتب إليه وأشفق منها ! ما العالم الفاسق ؟ قال : فكتب إليه هرم : يا أمير المؤمنين ! والله ما أدرت به إلا الخير ، يكون إمام يتكلم بالعلم ، ويعمل بالفسق ، فيشبه على الناس فيضلون ))
وسمّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الفاسق منافقاً ، فقال : (( إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ؟ قالوا : وكيف يكون المنافق عليماً ، قال : يتكلّم بالحكمة ، ويعمل بالجور ، أو قال المنكر ))
وسئل حذيفة بن اليمان : مَنِ المنافق؟ قال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة فويسقًا، فقال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ )) قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ: ((الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ))
والرويبضة تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها .
وفي الجملة، فقد يقال: إن هذه المعاصي التي سميت فسقًا عمليًا أعظم ممن دونها من معاصٍ لم تسم فسقًا، وكما قال البيضاوي: (( والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمته كأنه متجاوز عن حده )) .
وقال الألوسي : الفاسق : 0 المتمرّد من معصية ما ))
وإضافة إلى ما سبق ، فإن فسق العمل نوعان 0 باعتبار آخر كما بيّنه ابن القيّم بقوله : ( فسق العمل نوعان : مقرون بالعصيان ، ومفرد ، فالمقرون بالعصيان : هو ارتكاب ما نهى الله عنه ، والعصيان : هو عصيان أمره ، قال تعالى : (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ )) ((الحجرات : 7)) .
وكما قال تعالى : ((لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) (التحريم :6).
وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام - : (( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )) ( طه : 92-93) .
فالفسق أخصّ بارتكاب النهي ، ولهذا يطلق عليه كثيراً ، كقوله تعالى : (( وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ )) ( البقرة : 282) .
والمعصية أخصّ بمخالفة الأمر ، ويطلق كل منهما على صاحبه ، كقوله تعالى : (( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)) ( الكهف : 50) .
فسمى مخالفته للأمر فسقاً ، وقال : (( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى )) (طه :121) .
فسمى ارتكابه للنهي معصية ، فهذا عند الإفراد ، فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر ، والآخر لمخالفة النهي .
وفي ختام هذه الوريقات ننبه إلى ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة ، ومخالفيهم .
فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته(53)، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة(54).
يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ (( ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. )) ( البقرة : 178)
وقال سبحانه : (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[9]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..)) ( الحجرات : 9،10) .
ولا يسلبون الفاسق الملّي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: (( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.)) ( النساء : 92) .
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً.)) ( الأنفال : 2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذات شرف يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))
ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطي الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم
فارتكاب الكبير يعدّ فسقاً ينافي كمال الإيمان الواجب ، وهذا الفسق يمكن اجتماعه مع الإيمان ، وصاحبه متعرّض للوعيد ، فأهل السنة يقولون بجواز التبعض في الاسم والحكم ، بمعنى أن يكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه ، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه
وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة، فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:
فأما الأشاعرة: فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمنًا بإطلاق، ويعتبرونه مؤمنًا حقًا.
كما قال أحدهم وهو الآمدي - : (( فعلى هذا مهما كان مصدقاً بالجنان وإن أخلّ بشيء من الأركان ، فهو مؤمن حقّاً ، وانتفاء الكفر عنه واجب ، وإن صح تسميته فاسقاً بالنسبة إلى ما أخلّ به من الطاعات ، وارتكب من المنهيّات ))
وسمى الإيجي مرتكب الكبيرة مؤمناً بإطلاق
وقد سبق أن ذكرنا أن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ لا يعطي الإيمان المطلق، فلا يقال عن الزاني، أو شارب الخمر ـ مثلًا ـ: إنه مؤمن بإطلاق، ولكن نقيده، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
* وقد عاب إبراهيم النخعي رحمه الله تلك المقولة ، فقال : (( ما أعلم قوماً أحمق في رأيهم من هذه المرجئة ؛ لأنهم يقولون : مؤمن ضالّ ، ومؤمن فاسق )) .
وعلى كلٍّ فإن مقالة أولئك الأشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن الإيمان هو التصديق، حيث أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان.
أما المعتزلة: فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة، فالفاسق عندهم ليس مؤمنًا، كما أنه ليس كافرًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الأصم .
يقول عبد الجبار الهمداني المعتزلي :
(( صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ، لا يكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنما يسمى فاسقاً ، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ، ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث ، وهو المنزلة بين المنزليتن )) ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاسقًا غير مؤمن، لذا حكموا عليه بالخلود في النار.
وكما قال عبد الجبار المعتزلي : (( والذي يدل على أن الفاسق يُخلّد في النار ، ويُعذّب فيها أبداً ما ذكرناه من عمومات الوعيد ، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، تدل على أنه يُخلّد ))
وقد تبع الزيديةُ المعتزلة في مفهوم الفسق ، ووافقهوهم على ما سبق ذكره
هذا ما تيسر جمعه في هذا المبحث، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة الثانية
النفاق والمنافقون تنبيهات وأخطار
إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنـهـم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علـم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟،وكم لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شـبـهـهـم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، (( أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) [البقرة:12].
اسم الموضوع : الفسق والنفاق (2)
|
المصدر : .: زاد المسلم :.
