صدى الحجاز
مراقب سابق
أقلقهم تأخرُّه وملُّوا من طول الانتظار، فخرجوا يبحثون عنه في كل اتجاه، فمنهم من اتجه إلى الفصول القريبة عله يجده في أحدها، ومنهم من اتجه إلى المقصف، فربما كان مشغولاً بفطوره، ومنهم من اتجه إلى دورات المياه عسى أن يجده عائداً منها متوضئاً، ومنهم من هَمَّ بالنزول إلى الدور الأرضي حيث غرفة المدرسين، إلا أن خوفَه من عقابٍ قد يتعرَّضُ له من أحدِهِم منعه من ذلك، فاكتفى بالبقاء قريباً من الدَّرج، يُطِلُّ منه إلى الأسفل بعد كل حين وحين، ثمَّ عاد الجميع أدراجهم يذوقون مرارة الخيبة- وما أقساها على براعم مثل الزهور-، ومع كل دقيقة وثانية تمضيان من الوقت تتمزق قلوبهم الصغيرة البريئة ألماً وحسرةً وهم يرون فرصتَهم الوحيدةَ اليتيمةَ في الأسبوع تضيع منهم، وشوقاً إلى هذا الحبيب المنتظَر.
وفجأة يُطْرَقُ الباب ثم يُفْتَحُ ليدخل مسلِّماً عليهم من انتظروه كل هذا الوقت، فإذا بهم يصيحون بصوت واحدٍ: جاء الأستاااااااااااااااذ... جاء الأستاااااااااااااااذ، وقفزوا من أماكنهم نحوه... هذا يسلِّم عليه، وهذا يتشبَّثُ بثوبه، وهذا يُقَبِّلُ يدَه لا يريد أن يتركَها...
- يلاَّ يا أولاد... كلُّ واحدٍ في مكانِه.
وبعد جهدٍ استطاع أن يُجلِسَهُم في أماكِنِهم، فبدؤوا يُخْرِجُون ما تُكِنُّهُ أفئدتُهُم، وما يطغى قلوبَهم ويعتلج في صُدورِهِم:
فقال طالب: انتظرناك طويلاً يا أستاذ.
وقال آخر: اشتقنا إليك يا أستاذ.
وقال آخر: بحثنا عنكَ في كل مكانٍ يا أستاذ
- ولم يدرك المسكين أنه بخروجه من الفصل ارتكبَ خطأً يعاقب عليه نظام الإدارة حتى ولو كان سببُ الخرُوج البحثَ عن المدرِّس شوقاً إليه، فلن تشفعَ له براءتُه الطفولية -.
هكذا ينصُّ قانون المدرسة ومفهوم التربية والتأديب عند البعض، فلابد من ردعهم وزجرهم عن اللعب، وتعليمهم السكينة والوقار والهدوء والاحترام المتبادل بين الأطفال.
وقال آخر: يا أستاذ: عندما تأخرت علينا دعا اللهَ محمودٌ كي يأتي بك، فنحن لا نصبر عنك!!...
- ماذا؟!.. دعا اللهَ أن يأتي بي إليكم؟!..
- نعم نعم يا أستاذ.
التفتُّ إلى هذا الطفل الصغير محمودٍ، فإذا به ينظر إلى الأرض، فقد أخجله كلامُ زميله، فقلت: أصحيح ما يقوله صاحبك يا محمود؟!..
- ... ... .
- ما لك يا محمود؟ تكلَّم، هل دعوتَ لي فعلاً؟
- نعم يا أستاذ.
- بماذا دعوت؟
- بحثنا عنك في كل مكان فلم نجدك، فدعوتُ اللهَ أن يأتيَ بك إلينا.
وقَفتُ فاغراً فمي مِمَّا سمعتُ وكأن صاعقة أصابت مفرق رأسي، وأخذتُ أتساءل: من ذا الذي وجَّهَهُ إلى الدُّعاء وألهمه وأرشده؟!.. فما عهدنا التربية عندنا تَحُثُّ على هذا، إنما هي التفتيش والإلزام بالشماغ وقص الشعر وإن لم يرتكب مخالفة شرعية وما إلى ذلك من المظاهر فقط، فمن أين له هذا التوجُّه؟!... إنها الفطرة التي فطرهُ الله عليها.
وبدأت أفكر وأفكر وأسبح في بحر من المشاعر والأحاسيس.
ما أصفى هذه القلوب الصغيرة البريئة، وما أصدقها مع ربِّها، وما أنقاها على الفطرة السليمة السويَّة... التجاءٌ مباشرٌ إلى علاَّم الغيوب بدعوةٍ صادقةٍ من قلبٍ مشتاقٍ بأن يأتي إليهم بحبيبهم المنتظَرِ مدرِّسِ الفنية، وأن لا يُفِوِّتَ عليهم هذه الحصة، فيستجيبُ الله دعاءَه من فوق سبع سموات، ولا يكاد هذا الطالب الصغير ينتهي من دعائه حتى يدخُلَ عليهم مدرُّسهم تسوقه دعوة الطالب.
نظرتُ إلى وجوههم الصغيرة وبدأت أتأمل فيها... تُرَى أي قلب يضمُّهم، وأي مستقبل ينتظرهم، وهل ستظل قلوبهم كما هي الآن بريئةً نقيةً صافيةً حينما يكبرون قليلاً ويخرجون من رحم الطفولة ويرتقون إلى الصف الثالث والرابع؟
أم أن الأيام ستغيرها وتأخذ من براءتها وصفائها ونقائها؟!...
إيهٍ أيها الصغار.. لو تعلمون ما ينتظركم حين تكبرون قليلاً من الجلد وقصم الظهور وحسابات عسيرة لتمنيتم أن لو كنتم نسياً منسياً .. وسترون أموراً تنكرونها ..
ولا تغرنكم ابتسامة العيد وأهازيجه .. وفرحة العطلة وألعابها .. فما هي إلا أيام وسَنَسْمَعُ أنينَكم وصرخاتكم واستغاثاتكم تحت وطأة الجلد من مؤدبيكم ومعلميكم.
ولا عجبَ إذا وجدناهم بعد ذلك في الأسواق وفي حلقة الخضار متشردين ومتسولين.
أيها الإخوة المدرسين:
لا شيء يحميهم من غدر الزمان وفساد البيئة وجهل المجتمع إلا أن يستظلوا برحمة مدرِّسيهم ومربِّيهم بعد رحمة ربِّهم وخالقهم، فأين هي منهم هذه القلوب الرحيمة، وأين من يوجههم إلى خالقهم ومولاهم توجيهاً مباشراً، وهل سيجدونه أم لا؟- الله أعلم-.
أدرت ظهري عليهم، وتظاهرت بالانشغال برسم منظرٍ من تلك المناظر المحببة إلى قلوبهم على السبورة، ووالله إن قلبي ليبكي حناناً وشفقةً عليهم، وخوفاً من ضياعهم في ظلِّ هذه التربية الخاطئة.
ولا أملك إلا أن أسأل اللهَ العظيم رب العرش الكريم أن يأخذ بأيديهم جميعاً إلى ما يحب ويرضى، وأن يظلَّهم بتوفيقه، إنه أرحم الراحمين.
وفجأة يُطْرَقُ الباب ثم يُفْتَحُ ليدخل مسلِّماً عليهم من انتظروه كل هذا الوقت، فإذا بهم يصيحون بصوت واحدٍ: جاء الأستاااااااااااااااذ... جاء الأستاااااااااااااااذ، وقفزوا من أماكنهم نحوه... هذا يسلِّم عليه، وهذا يتشبَّثُ بثوبه، وهذا يُقَبِّلُ يدَه لا يريد أن يتركَها...
- يلاَّ يا أولاد... كلُّ واحدٍ في مكانِه.
وبعد جهدٍ استطاع أن يُجلِسَهُم في أماكِنِهم، فبدؤوا يُخْرِجُون ما تُكِنُّهُ أفئدتُهُم، وما يطغى قلوبَهم ويعتلج في صُدورِهِم:
فقال طالب: انتظرناك طويلاً يا أستاذ.
وقال آخر: اشتقنا إليك يا أستاذ.
وقال آخر: بحثنا عنكَ في كل مكانٍ يا أستاذ
- ولم يدرك المسكين أنه بخروجه من الفصل ارتكبَ خطأً يعاقب عليه نظام الإدارة حتى ولو كان سببُ الخرُوج البحثَ عن المدرِّس شوقاً إليه، فلن تشفعَ له براءتُه الطفولية -.
هكذا ينصُّ قانون المدرسة ومفهوم التربية والتأديب عند البعض، فلابد من ردعهم وزجرهم عن اللعب، وتعليمهم السكينة والوقار والهدوء والاحترام المتبادل بين الأطفال.
وقال آخر: يا أستاذ: عندما تأخرت علينا دعا اللهَ محمودٌ كي يأتي بك، فنحن لا نصبر عنك!!...
- ماذا؟!.. دعا اللهَ أن يأتي بي إليكم؟!..
- نعم نعم يا أستاذ.
التفتُّ إلى هذا الطفل الصغير محمودٍ، فإذا به ينظر إلى الأرض، فقد أخجله كلامُ زميله، فقلت: أصحيح ما يقوله صاحبك يا محمود؟!..
- ... ... .
- ما لك يا محمود؟ تكلَّم، هل دعوتَ لي فعلاً؟
- نعم يا أستاذ.
- بماذا دعوت؟
- بحثنا عنك في كل مكان فلم نجدك، فدعوتُ اللهَ أن يأتيَ بك إلينا.
وقَفتُ فاغراً فمي مِمَّا سمعتُ وكأن صاعقة أصابت مفرق رأسي، وأخذتُ أتساءل: من ذا الذي وجَّهَهُ إلى الدُّعاء وألهمه وأرشده؟!.. فما عهدنا التربية عندنا تَحُثُّ على هذا، إنما هي التفتيش والإلزام بالشماغ وقص الشعر وإن لم يرتكب مخالفة شرعية وما إلى ذلك من المظاهر فقط، فمن أين له هذا التوجُّه؟!... إنها الفطرة التي فطرهُ الله عليها.
وبدأت أفكر وأفكر وأسبح في بحر من المشاعر والأحاسيس.
ما أصفى هذه القلوب الصغيرة البريئة، وما أصدقها مع ربِّها، وما أنقاها على الفطرة السليمة السويَّة... التجاءٌ مباشرٌ إلى علاَّم الغيوب بدعوةٍ صادقةٍ من قلبٍ مشتاقٍ بأن يأتي إليهم بحبيبهم المنتظَرِ مدرِّسِ الفنية، وأن لا يُفِوِّتَ عليهم هذه الحصة، فيستجيبُ الله دعاءَه من فوق سبع سموات، ولا يكاد هذا الطالب الصغير ينتهي من دعائه حتى يدخُلَ عليهم مدرُّسهم تسوقه دعوة الطالب.
نظرتُ إلى وجوههم الصغيرة وبدأت أتأمل فيها... تُرَى أي قلب يضمُّهم، وأي مستقبل ينتظرهم، وهل ستظل قلوبهم كما هي الآن بريئةً نقيةً صافيةً حينما يكبرون قليلاً ويخرجون من رحم الطفولة ويرتقون إلى الصف الثالث والرابع؟
أم أن الأيام ستغيرها وتأخذ من براءتها وصفائها ونقائها؟!...
إيهٍ أيها الصغار.. لو تعلمون ما ينتظركم حين تكبرون قليلاً من الجلد وقصم الظهور وحسابات عسيرة لتمنيتم أن لو كنتم نسياً منسياً .. وسترون أموراً تنكرونها ..
ولا تغرنكم ابتسامة العيد وأهازيجه .. وفرحة العطلة وألعابها .. فما هي إلا أيام وسَنَسْمَعُ أنينَكم وصرخاتكم واستغاثاتكم تحت وطأة الجلد من مؤدبيكم ومعلميكم.
ولا عجبَ إذا وجدناهم بعد ذلك في الأسواق وفي حلقة الخضار متشردين ومتسولين.
أيها الإخوة المدرسين:
لا شيء يحميهم من غدر الزمان وفساد البيئة وجهل المجتمع إلا أن يستظلوا برحمة مدرِّسيهم ومربِّيهم بعد رحمة ربِّهم وخالقهم، فأين هي منهم هذه القلوب الرحيمة، وأين من يوجههم إلى خالقهم ومولاهم توجيهاً مباشراً، وهل سيجدونه أم لا؟- الله أعلم-.
أدرت ظهري عليهم، وتظاهرت بالانشغال برسم منظرٍ من تلك المناظر المحببة إلى قلوبهم على السبورة، ووالله إن قلبي ليبكي حناناً وشفقةً عليهم، وخوفاً من ضياعهم في ظلِّ هذه التربية الخاطئة.
ولا أملك إلا أن أسأل اللهَ العظيم رب العرش الكريم أن يأخذ بأيديهم جميعاً إلى ما يحب ويرضى، وأن يظلَّهم بتوفيقه، إنه أرحم الراحمين.
اسم الموضوع : (الـرحـمـة)
|
المصدر : .: أشتات وشذرات :.