- إنضم
- 27 أبريل 2009
-
- المشاركات
- 777
-
- مستوى التفاعل
- 1
-
- النقاط
- 0
-
- الإقامة
- مبتدأ مرفوع دائماً
-
- الموقع الالكتروني
- www.almnhjalrbani.com
وأشير إلى مسألة مهمة، وهي: أن النفاق موجود وواقع، خلافاً لمن أنكره من طوائف المرجئة، فقد زعم صنف من المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق .
قيل للحسن البصري: إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق، فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من طلاع (ملء) الأرض ذهباً .
وقال سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاثة،.. وذكر منها: نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق .
وحمل أولئك المرجئة حديث عبد الله بن عمرو: (( أربع من كن فيه كان منافقاً...)) على المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث تلبسوا بهذه الخصال الأربع .
وليس لهم أن يحتجوا بما أخرجه البخاري عن حذيفة (رضي الله عنه)، حيث قال: (إنما كان النفاق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان).
حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والذي يظهر: أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده: فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التآلف لعدم الاحتياج إلى ذلك) .
وبالإضافة إلى ذلك: فقد نصّ حذيفة على وقوع النفاق بعد عهد النبوة في عدة أقوال، ومن ذلك قوله رضي الله عنه : (المنافقون الذين فيكم شرّ من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: وكيف ذاك ؟، فقال : إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ، وإن هؤلاء يعلنون) .
وجاء رجل من المرجئة لأيوب السختياني، فقال: إنما هو الكفر والإيمان، فقال أيوب: أرأيت قوله: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)) [التوبة: 106]، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي! .
ولعل هذا الأثر يكشف سبب إنكار أولئك المرجئة للنفاق، فهذا المرجئ يقول: إنما هو الكفر والإيمان، ومقصوده: أن الإيمان شيء واحد إذا ثبت بعضه ثبت جميعه، وإذا زال بعضه زال جميعه، فلا يجتمع ـ عندهم ـ في العبد إيمان وكفر أو نفاق أصغر، ولذا: احتج عليه أيوب بالآية الكريمة ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ)) .
فهذا صنف جمعوا بين إيمان ومعاصٍ، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأمْرهم إلى الله (تعالى)، فليسوا من أهل الإيمان المطلق التام، كما أنهم ليسوا كفاراً مطلقاً.
وقد غلط المرجئة في ذلك، فليس الإيمان شيئاً أو شعبة واحدة، بل إن الإيمان شعب متعددة ـ كما في حديث شعب الإيمان ـ وكذلك الكفر والنفاق شعب متعددة.
ويدل على ذلك: ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: (( ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال رجل: يا رسول الله، ذهبت اثنتان وبقيت واحدة ؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء)) .
قال الذهبي: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص..) وقال شيخ الإسلام : (وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة..) .
وأمر آخر، وهو: أن مقالة الكرامية، وهم من طوائف المرجئة، بأن الإيمان: قول باللسان، قد تكون سبباً في إنكارهم النفاق ونفيه، فالمنافق - عندهم مؤمن بالنسبة إلى أحكام الدنيا، مع أن الله (تعالى) قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله (سبحانه): ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)) [البقرة: 8].
كما أن غلاة المرجئة - الجهمية ومن تبعهم - ينكرون الأعمال القلبية، فيخرجونها عن مسمى الإيمان، فالإيمان ـ عندهم ـ معرفة أو تصديق بلا عمل قلبي.
وهذا لا يعدّ إيماناً صحيحاً ولا مقبولاً، فالتصديق بلا نية أو عمل قلبي نفاق ، فجعلوا الإيمان مجرد ومن ثم سينكرون النفاق، والله أعلم.
أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين، فيتمثل في جملة أمور، منها:
1- النهي عن موالاتهم والركون إليهم، كما قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ*هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) [آل عمران: 118، 119].
2- زجرهم ووعظهم: لقوله تعالى : (( أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)) [النساء: 63].
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم، حيث قال تعالى: (( إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)) [النساء: 105- 107].
4- جهادهم والغلظة عليهم: لقوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ)) [التوبة: 73].
5- تحقيرهم وعدم تسويدهم: فعن بريدة بن الحصيب مرفوعاً: (لا تقولوا للمنافق (سيّد)، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل) .
وكان حذيفة يؤيس (يحتقر) المنافقين .
6- عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله تعالى : ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)) [التوبة: 84].
ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:
أولاً: علينا أن نفرق بين المداهنة - وهي من خصال المنافقين وشعب النفاق و بين المداراة، فالمداهنة: مجاراة أهل الكفر والفسق في باطلهم، وأما المداراة فهي: مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم، أو تأليفاً لقلوبهم.
فالمداهن صاحب تلون وتذبذب، ويَلْقى كل طائفة بما تهوى، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ((تجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) .
قال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ هو متعلق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب) .
فالمداهنة محرمة ومذمومة، بخلاف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما : (( استأذن رجل في الدخول على النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: بئس أخو العشيرة فلما جلس تَطلّق له النبي - صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط له، فسألته عائشة، فقال: يا عائشة متى عهدتيني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله : من تَرَكه الناس مخافة فحشه )) .
وقد بيّن أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة، ومراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسلكه تجاه ذلك الرجل.. ( قال القاضي عياض: الفرق بين المداراة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدين، أو الدنيا، أو هما معاً، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول ، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة) .
وقال ابن بطال: (حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تَلَقّاه بالبشر كان لتأليفه، أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح) .
إذا تقرر ذلك فليتق الله قوم يداهنون أنظمة طاغوتية ، وحكاماً مضلين، ثم يسمون صنيعهم مدارة وحكمة وسياسة ،فإن العبرة بالحقائق ، والله عزَّ وجلَّ مطلع على السرائر وما تخفى الصدور.
ثانياً: ينبغي أن نفرِّق بين النفاق وبين ما يعرض للقلب من الغفلة والتغير بعد الخشوع والإخبات.
يقول ابن رجب : ( لما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال.. أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأُسيْديِّ أنه مرّ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ( فقال : كيف أنت يا حنظلة، قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول، قال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا [ اشتغلنا بـ ] الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخبره حنظلة بحاله، فقال عليه الصلاة
والسلام : ((والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) .
وقال النووي : (وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الـشـــر، فخـاف أن يكــون ذلك منافقاً، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه ليس بنـفــاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك) .
والمقصود : أن أمر النفاق شيء، وأما الغفلة والذهول شـيء آخــــر، حيث يرد هذا التغير على القلب، لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة، فيستغفر العبد ربه وينيب.
ثالثاً : أن نفرِّق بين قبول الحق من كل شخص ســواءً أكان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وبين موالاة ذلك الشخص ومودته، فالمنافق إذا قال صوابــاً، فإنه يقبل هذا الصواب منه، ومع ذلك فله حق العداوة والبغضاء بحسب نفاقه، وفي المقابل: فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق، وإن وقع في زلة أو عثرة، فلا يُوَافَق على زلته وعثرته، لكن يبقى له حق الولاء والنصرة حسب إيمانه وتقواه.
كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((واحذروا زيغة الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نوراً)) .
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق، وأن يختم لنا بالإيمان
وبالله التوفيق .
منقووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول
قيل للحسن البصري: إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق، فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من طلاع (ملء) الأرض ذهباً .
وقال سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاثة،.. وذكر منها: نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق .
وحمل أولئك المرجئة حديث عبد الله بن عمرو: (( أربع من كن فيه كان منافقاً...)) على المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث تلبسوا بهذه الخصال الأربع .
وليس لهم أن يحتجوا بما أخرجه البخاري عن حذيفة (رضي الله عنه)، حيث قال: (إنما كان النفاق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان).
حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والذي يظهر: أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده: فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التآلف لعدم الاحتياج إلى ذلك) .
وبالإضافة إلى ذلك: فقد نصّ حذيفة على وقوع النفاق بعد عهد النبوة في عدة أقوال، ومن ذلك قوله رضي الله عنه : (المنافقون الذين فيكم شرّ من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: وكيف ذاك ؟، فقال : إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ، وإن هؤلاء يعلنون) .
وجاء رجل من المرجئة لأيوب السختياني، فقال: إنما هو الكفر والإيمان، فقال أيوب: أرأيت قوله: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)) [التوبة: 106]، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي! .
ولعل هذا الأثر يكشف سبب إنكار أولئك المرجئة للنفاق، فهذا المرجئ يقول: إنما هو الكفر والإيمان، ومقصوده: أن الإيمان شيء واحد إذا ثبت بعضه ثبت جميعه، وإذا زال بعضه زال جميعه، فلا يجتمع ـ عندهم ـ في العبد إيمان وكفر أو نفاق أصغر، ولذا: احتج عليه أيوب بالآية الكريمة ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ)) .
فهذا صنف جمعوا بين إيمان ومعاصٍ، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأمْرهم إلى الله (تعالى)، فليسوا من أهل الإيمان المطلق التام، كما أنهم ليسوا كفاراً مطلقاً.
وقد غلط المرجئة في ذلك، فليس الإيمان شيئاً أو شعبة واحدة، بل إن الإيمان شعب متعددة ـ كما في حديث شعب الإيمان ـ وكذلك الكفر والنفاق شعب متعددة.
ويدل على ذلك: ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: (( ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال رجل: يا رسول الله، ذهبت اثنتان وبقيت واحدة ؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء)) .
قال الذهبي: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص..) وقال شيخ الإسلام : (وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة..) .
وأمر آخر، وهو: أن مقالة الكرامية، وهم من طوائف المرجئة، بأن الإيمان: قول باللسان، قد تكون سبباً في إنكارهم النفاق ونفيه، فالمنافق - عندهم مؤمن بالنسبة إلى أحكام الدنيا، مع أن الله (تعالى) قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله (سبحانه): ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)) [البقرة: 8].
كما أن غلاة المرجئة - الجهمية ومن تبعهم - ينكرون الأعمال القلبية، فيخرجونها عن مسمى الإيمان، فالإيمان ـ عندهم ـ معرفة أو تصديق بلا عمل قلبي.
وهذا لا يعدّ إيماناً صحيحاً ولا مقبولاً، فالتصديق بلا نية أو عمل قلبي نفاق ، فجعلوا الإيمان مجرد ومن ثم سينكرون النفاق، والله أعلم.
أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين، فيتمثل في جملة أمور، منها:
1- النهي عن موالاتهم والركون إليهم، كما قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ*هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) [آل عمران: 118، 119].
2- زجرهم ووعظهم: لقوله تعالى : (( أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)) [النساء: 63].
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم، حيث قال تعالى: (( إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)) [النساء: 105- 107].
4- جهادهم والغلظة عليهم: لقوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ)) [التوبة: 73].
5- تحقيرهم وعدم تسويدهم: فعن بريدة بن الحصيب مرفوعاً: (لا تقولوا للمنافق (سيّد)، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل) .
وكان حذيفة يؤيس (يحتقر) المنافقين .
6- عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله تعالى : ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)) [التوبة: 84].
ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:
أولاً: علينا أن نفرق بين المداهنة - وهي من خصال المنافقين وشعب النفاق و بين المداراة، فالمداهنة: مجاراة أهل الكفر والفسق في باطلهم، وأما المداراة فهي: مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم، أو تأليفاً لقلوبهم.
فالمداهن صاحب تلون وتذبذب، ويَلْقى كل طائفة بما تهوى، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ((تجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) .
قال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ هو متعلق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب) .
فالمداهنة محرمة ومذمومة، بخلاف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما : (( استأذن رجل في الدخول على النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: بئس أخو العشيرة فلما جلس تَطلّق له النبي - صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط له، فسألته عائشة، فقال: يا عائشة متى عهدتيني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله : من تَرَكه الناس مخافة فحشه )) .
وقد بيّن أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة، ومراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسلكه تجاه ذلك الرجل.. ( قال القاضي عياض: الفرق بين المداراة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدين، أو الدنيا، أو هما معاً، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول ، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة) .
وقال ابن بطال: (حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تَلَقّاه بالبشر كان لتأليفه، أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح) .
إذا تقرر ذلك فليتق الله قوم يداهنون أنظمة طاغوتية ، وحكاماً مضلين، ثم يسمون صنيعهم مدارة وحكمة وسياسة ،فإن العبرة بالحقائق ، والله عزَّ وجلَّ مطلع على السرائر وما تخفى الصدور.
ثانياً: ينبغي أن نفرِّق بين النفاق وبين ما يعرض للقلب من الغفلة والتغير بعد الخشوع والإخبات.
يقول ابن رجب : ( لما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال.. أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأُسيْديِّ أنه مرّ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ( فقال : كيف أنت يا حنظلة، قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول، قال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا [ اشتغلنا بـ ] الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخبره حنظلة بحاله، فقال عليه الصلاة
والسلام : ((والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) .
وقال النووي : (وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الـشـــر، فخـاف أن يكــون ذلك منافقاً، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه ليس بنـفــاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك) .
والمقصود : أن أمر النفاق شيء، وأما الغفلة والذهول شـيء آخــــر، حيث يرد هذا التغير على القلب، لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة، فيستغفر العبد ربه وينيب.
ثالثاً : أن نفرِّق بين قبول الحق من كل شخص ســواءً أكان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وبين موالاة ذلك الشخص ومودته، فالمنافق إذا قال صوابــاً، فإنه يقبل هذا الصواب منه، ومع ذلك فله حق العداوة والبغضاء بحسب نفاقه، وفي المقابل: فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق، وإن وقع في زلة أو عثرة، فلا يُوَافَق على زلته وعثرته، لكن يبقى له حق الولاء والنصرة حسب إيمانه وتقواه.
كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((واحذروا زيغة الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نوراً)) .
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق، وأن يختم لنا بالإيمان
وبالله التوفيق .
منقووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول
اسم الموضوع : الفسق والنفاق (4)
|
المصدر : .: زاد المسلم :.
