- إنضم
- 3 أغسطس 2009
-
- المشاركات
- 31
-
- مستوى التفاعل
- 0
-
- النقاط
- 0
أبحثُ عن البراءةِ والسَّذاجةِ في نفسي فلا أجدها، أين أضعتُ صورتي البريئة النقيَّة التي كانت تُذكُرني بها جدَّتي، لقد كانت لي مرآة أرى فيها سذاجة الطفولة تُطِلُّ من عيني.
ضاعت تلك الصورة مني بين دهاليز الحياة، واختفت في ظلامها، اليوم أبصرُ صورةً لا تعكسُ في نفسي إلاَّ أضداد البراءة والسَّذاجة.
أتُراني لذلك أحببتُ بكرًا، ذلك الشَّابُ الذي كان يجلس بجانبي في حِلَقِ الدِّراسة وزمان الطَّلب، كان ظريفًا جميلاً، ذا صوت عذب ندي، محبب الشكل، قصير القامة، طيب القلب إلى درجة الغفلة، يحملُ في روحه كل المعاني التي أضعتُها من نفسي.
وكان إذا قرأ القرآن لا نكاد نحبس الدَّمعة من نداوة صوته، وخشوع تلاوته.
كانت تحلو لي مداعبتُه، والتندر بسذاجته، فكنتُ إذا تخلفتُ يومًا عن الحضور، أبادره في اليوم التالي، وأفاجئه: سلامات يا شيخ بكر، لم أرك أمسِ؟
فتتسع حدقتا عينيه، ويقول: كيف ؟! ما شفتني ؟! لقد كنتُ موجودًا يا رجل؟!
- لا والله، لو كنتَ حاضرًا لرأيتُك؟
فتزيد حدقتا عينيه اتساعًا، فأقسم له، فيقفُ ويحدِّق في الفراغ، ويطيل التأمل، ثم يعود لهزّ رأسه: لا .. لا .. أنت غلطان يا أخي، والله كنتُ حاضرًا.
فأعيدُ عليه أيماني، فيلتفتُ إلى الذي أمامه، والذي من خلفه، والذي يجاوره من الناحية الأخرى: ألم أكن يا جماعةُ حاضرًا أمسِ ؟
فينظرون إليّ، ثم يتفقون على إجابة واحدة: نعم، اليوم الذي قبله رأيناك، لكن أمسِ لسنا متأكدين، وجارك يقسم أنه لم يرك، وهو لا يقسم كاذبًا.
عندها تشعر من اتِّساع عينيه أنهما ستخرجان، فينطلقُ مبادرًا إلى مراقب الدوام (يريدُ أن يسأله أكان حاضرًا أمسِ)، فيمسك الزملاءُ به شفقة ورحمة، ويقولون له: يا شيخ بكر، جارُك لو كان حاضرًا أمسِ لرآك.
فينظر إليَّ نظرة المحب المغضب: سامحك الله، لو كان غيرك، أتسخر مني؟
هل كنتُ أسخرُ منه؟ أم كنتُ أتوقُ لرؤية صفاء عينيه، ونقاء سريرته، في كل مرَّة تتكرر فيها هذه الحكاية.
أكنتُ أبحثُ بين طيَّاتِ حيرته عن الجمالِ الذي فقدتُه في نفسي بين ازدحامِ الحياةِ، ولَهَثي خلفها.
سقى الله تلك الأيّام، كم كنتُ أحبُّك يا بكرُ، لقد كنتَ تهبُ ليَ السَّعادة حين تعاتبني هذا العتاب المحبب إلى قلبي، وبرغم ذلك كنتُ تخلص لي في وِدادك، وتذكرني في صالح دعواتك.
أين دارت بنا الأرض؟ وأين ألقت بنا الحياة ؟
لقد تقاذفتنا الدُّنيا، فلم نعدْ نَشَمُّ رائحةَ الوُدِّ في سمائنا، ولا نكادُ نبصرُ نقاءً في أفئدتنا، فقدتُ تلك المعاني يومَ فقدتُ رؤية وجهكَ الودودِ الباسمِ.
بكر أيَّها الطَّيب! ما زلتُ أذكرُ ابتس
امتك، فلعلَّ الأرض تجمعنا يومًا ما عليها، قبل أن تجمعنا يومًا ما فيها.
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : نقاء السذاجة
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.
