أبو هيثم الشاكر
مراقب سابق
أمضيت سَنة في الكُتّاب على سطح مسجد القرية لدى إمامه الذي هو معلّم الصبيان أيضا، وقد تعلّمت على يديه القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الأولية.
بعد ذلك أخذني والدي إلى حيث يدرس شقيقاي الكبيران.
دخل بي أبي بيتا فيه غرف كثيرة، إحداها تشبه غرفة المجلس، وبها رجالٌ يُرى في نظراتهم الجدّيّة، فأجلسني أبي أمام أحدهم قائلا له: هو هذا ابني الذي حدّثتك عنه. فسألني ذلك الرجل باللغة الأركانية العريقة أسئلة عرفت فيما بعد أنها التي تُعرف بالمقابلة الشخصية.
رجعت بعد ذلك إلى البيت وما والله في النفس ذرةُ رغبةٍ في ترك زملائي في الكُتّاب.
ولكن:
بدأ العام الدراسي، وقد تقرّر أن أكون في الصف الثاني الابتدائي وليس الأول بحكم دراستي السابقة في الكُتّاب.
أوّل ما دخلت من بوابة المدرسة رأيت بعض الرجال واقفين من أولئك الذين رأيتهم يوم تسجيلي في تلك الغرفة المستطيلة (غرفة المعلمين والإدارة معا قديما)، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا ما يشبه النفخ في الصور، جرسا يكاد يقتلع طبلة الأذن من جذورها، وعزمت على إبرام اتفاق مع مَن بجانبي على التناصر والدفاع المشترك إذا دهمنا خطر، ولكني لم أرَ أحدا يكترث لهذا الجرس، بل دخل علينا أحدهم، وقيل لي إنه أستاذنا.
أصحيح ذلك يا زملائي؟ هل الأستاذ هو الذي يأتي إلينا بدلا من أن نذهب نحن إليه للدرس؟ أجابوني ببعض السخرية: نعم أيها القرويّ، الأستاذ هو الذي يأتي إلينا.
سبحان الله! ما أفسد ثمرة التمدّن؟ كيف يُكلّف الأستاذ الوقور المجيء إلى الطلاب لإلقاء الدرس والطلاب جالسون في أماكنهم، والله لم أر مشهدا غير لائق كهذا، فنحن الذين كنا نذهب للدرس إلى مكان أستاذنا في الكُتّاب، ولم يكن هو الذي يأتي إلينا.
بدأ الأستاذ يشرح الدرس، وأثناء ذلك دخل علينا شخص آخر وفي يده ما يشبه الخيزران (العصا)، وسِجِلّ يسرد منه أسماء الطلاب، وكل من سمع اسمه قال: (حاضر)، ولما سمعت اسمي لم يطاوعني لساني على قول: (حاضر)، فقلت -كما تعودت- : (لبيك)، وإذا بهم جميعا ينظرون إليّ في دهشة، فتغاضيت عنهم.
انتهى النداء (التحضير) وخرج صاحب الخيزران، وساق معه عددا لا بأس به من التلاميذ (مرتكبي جريمة الغياب)، وعلمت لاحقا أن أمثالهم يساقون كل يوم زمرا إلى حيث يضرب المحضّر أيديهم وأدبارهم.
ولقد رأيت مرةً ينالهم من العقاب ما لو أُوعِدَ به العميان والعرجان لما اعتذروا عن القتال.
وبعد قليل عاد ذلك الجرس يرنّ، ورأيت أستاذنا يخرج عقب سماع هذا الجرس، وإذا برجل يدخل علينا متجرّئا على الجلوس في مكان أستاذنا منتهكا حرمة ذلك الكرسي دونما أي اكتراث لهيبة المكان، فاستغربت ذلك الأمر، وقلت لبعض الزملاء: ألَم تقولوا لي قبل قليل إن ذلك أستاذنا؟ فلِم ذهب إذن ولم يُكمِل معنا الدروس؟
لم أكَدْ أكمل تساؤلاتي فقيل لي هذا الآخر أستاذ القراءة. يا صاحبي: أهذا أستاذ أيضا؟ قالوا: بلى. كل شيء متغير سبحان الله!!!
كم أستاذا يدرّسنا إذن؟ ألكل كتاب مدرّس؟ وكيف أصبحوا معلّمين إذا لم يتقنوا كل الكتب؟ فإن أستاذي في الكُتّاب كان وحده يدرّس كلّ المواد (القرآن+أردو دوسري+كتاب تعاليم الإسلام+بهيشتي زيور+الحساب).
وما لبث أن رنّ الجرس مرة أخرى وخرج هذا الآخر، ولكن طال الانتظار ولم يأتنا مدرس آخر، فقلت لصاحبي: ألم تقل لي إنه مع كل رنة جرس يخرج مدرس ويأتي آخر؟ فلِم لا يأتينا الآن أحد؟ فأجابني صاحبي: ألا ترى أنك بهذه التساؤلات تزعجنا؟ إن هذه الحصة حصة (فراغ)!!! فقلت: فماذا نفعل فيها؟ فقال: تأكل وتتفسح في مكانك ولا تخرج من الفصل! فقلت: سبحان ربي!!! أيسمح لنا أن نأكل في الفصل؟ وفعلا قد رأيت التلاميذ يأكلون ما أتوا به من بيوتهم من السندويتشات والشاورما البرماوي، يا هذا، من أين لهم الشاورما في صباح رب العالمين؟ أيها الأحباب: الشاورما البرماوي عبارة عن بقايا إدام اللحم البائت أو اللحم المقدّد (غسّو خرغا) توضع داخل الصامولي، فلا تسأل عن قيمته الغذائية بعد ذلك.
لست أسخر والله من هذا الظرف القاسي الذي عاشه سلفنا في تلك الحقبة فقد كنت جزءا منهم، ولا تقل: وماذا تقصد بالقيمة الغذائية غير الاستهزاء؟
أخي بارك الله فيك، جميع أساتذة اليوم من الجماعة هم ممن نمت أجسامهم على هذه الأنواع من الأكلات، وهم اليوم خير من يؤدي دور المربي، فما العيب في ذلك إذن؟
وهكذا مع كل رنة جرس يخرج معلّم ويدخل آخر، ولكنه في إحدى المرات حدث ما يلي:
رنّ الجرس كعادته فإذا هم قيام ينطلقون انطلاق السهم من الرمية، فالتفتُّ إلى صاحبي كي أستجلي الأمر، هل من خطر وشيك يداهمنا؟ وإذا به هو الآخر قد ولّى فخرجت على أثره حتى باب المدرسة وإذا بالكتل البشرية من التلاميذ تنجرف من درجان المدرسة كالسيل في الوادي، واختلط الحابل بالنابل، فخرجت مع الجموع من البوابة وهنا سنحت لي فرصة سؤال أحد الناجين عما حصل ولِم خرج الجميع بهذه السرعة؟
فقال لي: إنها الصرفة.
سبحان الملك العلام!!! لقد كنا في الكُتّاب ننصرف واحدا تلو الآخر ولا جرس ولا نفخ في الصور، وإنما هي إشارة من الأستاذ باللَّي (الخرطوم) الذي بيده.
رجعت إلى منزلي بعد يوم حافل بالمجازفات والتحديات، ونفسي تتلهف للرجوع إلى تلك الطريقة البدائية في الدراسة في الكُتّاب.
وهكذا التحقت بالمدرسة التوحيدية أيها الأحباب عام 1404هـ.
بعد ذلك أخذني والدي إلى حيث يدرس شقيقاي الكبيران.
دخل بي أبي بيتا فيه غرف كثيرة، إحداها تشبه غرفة المجلس، وبها رجالٌ يُرى في نظراتهم الجدّيّة، فأجلسني أبي أمام أحدهم قائلا له: هو هذا ابني الذي حدّثتك عنه. فسألني ذلك الرجل باللغة الأركانية العريقة أسئلة عرفت فيما بعد أنها التي تُعرف بالمقابلة الشخصية.
رجعت بعد ذلك إلى البيت وما والله في النفس ذرةُ رغبةٍ في ترك زملائي في الكُتّاب.
ولكن:
إذا لم يكن إلا الأسنّة مركبا***فما حيلة المحتار إلا ركوبها
بدأ العام الدراسي، وقد تقرّر أن أكون في الصف الثاني الابتدائي وليس الأول بحكم دراستي السابقة في الكُتّاب.
أوّل ما دخلت من بوابة المدرسة رأيت بعض الرجال واقفين من أولئك الذين رأيتهم يوم تسجيلي في تلك الغرفة المستطيلة (غرفة المعلمين والإدارة معا قديما)، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا ما يشبه النفخ في الصور، جرسا يكاد يقتلع طبلة الأذن من جذورها، وعزمت على إبرام اتفاق مع مَن بجانبي على التناصر والدفاع المشترك إذا دهمنا خطر، ولكني لم أرَ أحدا يكترث لهذا الجرس، بل دخل علينا أحدهم، وقيل لي إنه أستاذنا.
أصحيح ذلك يا زملائي؟ هل الأستاذ هو الذي يأتي إلينا بدلا من أن نذهب نحن إليه للدرس؟ أجابوني ببعض السخرية: نعم أيها القرويّ، الأستاذ هو الذي يأتي إلينا.
سبحان الله! ما أفسد ثمرة التمدّن؟ كيف يُكلّف الأستاذ الوقور المجيء إلى الطلاب لإلقاء الدرس والطلاب جالسون في أماكنهم، والله لم أر مشهدا غير لائق كهذا، فنحن الذين كنا نذهب للدرس إلى مكان أستاذنا في الكُتّاب، ولم يكن هو الذي يأتي إلينا.
بدأ الأستاذ يشرح الدرس، وأثناء ذلك دخل علينا شخص آخر وفي يده ما يشبه الخيزران (العصا)، وسِجِلّ يسرد منه أسماء الطلاب، وكل من سمع اسمه قال: (حاضر)، ولما سمعت اسمي لم يطاوعني لساني على قول: (حاضر)، فقلت -كما تعودت- : (لبيك)، وإذا بهم جميعا ينظرون إليّ في دهشة، فتغاضيت عنهم.
انتهى النداء (التحضير) وخرج صاحب الخيزران، وساق معه عددا لا بأس به من التلاميذ (مرتكبي جريمة الغياب)، وعلمت لاحقا أن أمثالهم يساقون كل يوم زمرا إلى حيث يضرب المحضّر أيديهم وأدبارهم.
ولقد رأيت مرةً ينالهم من العقاب ما لو أُوعِدَ به العميان والعرجان لما اعتذروا عن القتال.
وبعد قليل عاد ذلك الجرس يرنّ، ورأيت أستاذنا يخرج عقب سماع هذا الجرس، وإذا برجل يدخل علينا متجرّئا على الجلوس في مكان أستاذنا منتهكا حرمة ذلك الكرسي دونما أي اكتراث لهيبة المكان، فاستغربت ذلك الأمر، وقلت لبعض الزملاء: ألَم تقولوا لي قبل قليل إن ذلك أستاذنا؟ فلِم ذهب إذن ولم يُكمِل معنا الدروس؟
لم أكَدْ أكمل تساؤلاتي فقيل لي هذا الآخر أستاذ القراءة. يا صاحبي: أهذا أستاذ أيضا؟ قالوا: بلى. كل شيء متغير سبحان الله!!!
كم أستاذا يدرّسنا إذن؟ ألكل كتاب مدرّس؟ وكيف أصبحوا معلّمين إذا لم يتقنوا كل الكتب؟ فإن أستاذي في الكُتّاب كان وحده يدرّس كلّ المواد (القرآن+أردو دوسري+كتاب تعاليم الإسلام+بهيشتي زيور+الحساب).
وما لبث أن رنّ الجرس مرة أخرى وخرج هذا الآخر، ولكن طال الانتظار ولم يأتنا مدرس آخر، فقلت لصاحبي: ألم تقل لي إنه مع كل رنة جرس يخرج مدرس ويأتي آخر؟ فلِم لا يأتينا الآن أحد؟ فأجابني صاحبي: ألا ترى أنك بهذه التساؤلات تزعجنا؟ إن هذه الحصة حصة (فراغ)!!! فقلت: فماذا نفعل فيها؟ فقال: تأكل وتتفسح في مكانك ولا تخرج من الفصل! فقلت: سبحان ربي!!! أيسمح لنا أن نأكل في الفصل؟ وفعلا قد رأيت التلاميذ يأكلون ما أتوا به من بيوتهم من السندويتشات والشاورما البرماوي، يا هذا، من أين لهم الشاورما في صباح رب العالمين؟ أيها الأحباب: الشاورما البرماوي عبارة عن بقايا إدام اللحم البائت أو اللحم المقدّد (غسّو خرغا) توضع داخل الصامولي، فلا تسأل عن قيمته الغذائية بعد ذلك.
لست أسخر والله من هذا الظرف القاسي الذي عاشه سلفنا في تلك الحقبة فقد كنت جزءا منهم، ولا تقل: وماذا تقصد بالقيمة الغذائية غير الاستهزاء؟
أخي بارك الله فيك، جميع أساتذة اليوم من الجماعة هم ممن نمت أجسامهم على هذه الأنواع من الأكلات، وهم اليوم خير من يؤدي دور المربي، فما العيب في ذلك إذن؟
وهكذا مع كل رنة جرس يخرج معلّم ويدخل آخر، ولكنه في إحدى المرات حدث ما يلي:
رنّ الجرس كعادته فإذا هم قيام ينطلقون انطلاق السهم من الرمية، فالتفتُّ إلى صاحبي كي أستجلي الأمر، هل من خطر وشيك يداهمنا؟ وإذا به هو الآخر قد ولّى فخرجت على أثره حتى باب المدرسة وإذا بالكتل البشرية من التلاميذ تنجرف من درجان المدرسة كالسيل في الوادي، واختلط الحابل بالنابل، فخرجت مع الجموع من البوابة وهنا سنحت لي فرصة سؤال أحد الناجين عما حصل ولِم خرج الجميع بهذه السرعة؟
فقال لي: إنها الصرفة.
سبحان الملك العلام!!! لقد كنا في الكُتّاب ننصرف واحدا تلو الآخر ولا جرس ولا نفخ في الصور، وإنما هي إشارة من الأستاذ باللَّي (الخرطوم) الذي بيده.
رجعت إلى منزلي بعد يوم حافل بالمجازفات والتحديات، ونفسي تتلهف للرجوع إلى تلك الطريقة البدائية في الدراسة في الكُتّاب.
وهكذا التحقت بالمدرسة التوحيدية أيها الأحباب عام 1404هـ.
يُتبَعْ
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأباب
|
المصدر : .: حكايات وأقاصيص :.

