لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأباب

تنبيه مهم:

  • المنتدى عبارة عن أرشيف محفوظ للتصفح فقط وغير متاح التسجيل أو المشاركة

أبو هيثم الشاكر

مراقب سابق
إنضم
26 أبريل 2009
المشاركات
786
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
مكة المكرمة
أمضيت سَنة في الكُتّاب على سطح مسجد القرية لدى إمامه الذي هو معلّم الصبيان أيضا، وقد تعلّمت على يديه القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الأولية.
بعد ذلك أخذني والدي إلى حيث يدرس شقيقاي الكبيران.
دخل بي أبي بيتا فيه غرف كثيرة، إحداها تشبه غرفة المجلس، وبها رجالٌ يُرى في نظراتهم الجدّيّة، فأجلسني أبي أمام أحدهم قائلا له: هو هذا ابني الذي حدّثتك عنه. فسألني ذلك الرجل باللغة الأركانية العريقة أسئلة عرفت فيما بعد أنها التي تُعرف بالمقابلة الشخصية.
رجعت بعد ذلك إلى البيت وما والله في النفس ذرةُ رغبةٍ في ترك زملائي في الكُتّاب.

ولكن:

إذا لم يكن إلا الأسنّة مركبا***فما حيلة المحتار إلا ركوبها

بدأ العام الدراسي، وقد تقرّر أن أكون في الصف الثاني الابتدائي وليس الأول بحكم دراستي السابقة في الكُتّاب.
أوّل ما دخلت من بوابة المدرسة رأيت بعض الرجال واقفين من أولئك الذين رأيتهم يوم تسجيلي في تلك الغرفة المستطيلة (غرفة المعلمين والإدارة معا قديما)، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا ما يشبه النفخ في الصور، جرسا يكاد يقتلع طبلة الأذن من جذورها، وعزمت على إبرام اتفاق مع مَن بجانبي على التناصر والدفاع المشترك إذا دهمنا خطر، ولكني لم أرَ أحدا يكترث لهذا الجرس، بل دخل علينا أحدهم، وقيل لي إنه أستاذنا.
أصحيح ذلك يا زملائي؟ هل الأستاذ هو الذي يأتي إلينا بدلا من أن نذهب نحن إليه للدرس؟ أجابوني ببعض السخرية: نعم أيها القرويّ، الأستاذ هو الذي يأتي إلينا.
سبحان الله! ما أفسد ثمرة التمدّن؟ كيف يُكلّف الأستاذ الوقور المجيء إلى الطلاب لإلقاء الدرس والطلاب جالسون في أماكنهم، والله لم أر مشهدا غير لائق كهذا، فنحن الذين كنا نذهب للدرس إلى مكان أستاذنا في الكُتّاب، ولم يكن هو الذي يأتي إلينا.
بدأ الأستاذ يشرح الدرس، وأثناء ذلك دخل علينا شخص آخر وفي يده ما يشبه الخيزران (العصا)، وسِجِلّ يسرد منه أسماء الطلاب، وكل من سمع اسمه قال: (حاضر)، ولما سمعت اسمي لم يطاوعني لساني على قول: (حاضر)، فقلت -كما تعودت- : (لبيك)، وإذا بهم جميعا ينظرون إليّ في دهشة، فتغاضيت عنهم.
انتهى النداء (التحضير) وخرج صاحب الخيزران، وساق معه عددا لا بأس به من التلاميذ (مرتكبي جريمة الغياب)، وعلمت لاحقا أن أمثالهم يساقون كل يوم زمرا إلى حيث يضرب المحضّر أيديهم وأدبارهم.
ولقد رأيت مرةً ينالهم من العقاب ما لو أُوعِدَ به العميان والعرجان لما اعتذروا عن القتال.
وبعد قليل عاد ذلك الجرس يرنّ، ورأيت أستاذنا يخرج عقب سماع هذا الجرس، وإذا برجل يدخل علينا متجرّئا على الجلوس في مكان أستاذنا منتهكا حرمة ذلك الكرسي دونما أي اكتراث لهيبة المكان، فاستغربت ذلك الأمر، وقلت لبعض الزملاء: ألَم تقولوا لي قبل قليل إن ذلك أستاذنا؟ فلِم ذهب إذن ولم يُكمِل معنا الدروس؟
لم أكَدْ أكمل تساؤلاتي فقيل لي هذا الآخر أستاذ القراءة. يا صاحبي: أهذا أستاذ أيضا؟ قالوا: بلى. كل شيء متغير سبحان الله!!!
كم أستاذا يدرّسنا إذن؟ ألكل كتاب مدرّس؟ وكيف أصبحوا معلّمين إذا لم يتقنوا كل الكتب؟ فإن أستاذي في الكُتّاب كان وحده يدرّس كلّ المواد (القرآن+أردو دوسري+كتاب تعاليم الإسلام+بهيشتي زيور+الحساب).
وما لبث أن رنّ الجرس مرة أخرى وخرج هذا الآخر، ولكن طال الانتظار ولم يأتنا مدرس آخر، فقلت لصاحبي: ألم تقل لي إنه مع كل رنة جرس يخرج مدرس ويأتي آخر؟ فلِم لا يأتينا الآن أحد؟ فأجابني صاحبي: ألا ترى أنك بهذه التساؤلات تزعجنا؟ إن هذه الحصة حصة (فراغ)!!! فقلت: فماذا نفعل فيها؟ فقال: تأكل وتتفسح في مكانك ولا تخرج من الفصل! فقلت: سبحان ربي!!! أيسمح لنا أن نأكل في الفصل؟ وفعلا قد رأيت التلاميذ يأكلون ما أتوا به من بيوتهم من السندويتشات والشاورما البرماوي، يا هذا، من أين لهم الشاورما في صباح رب العالمين؟ أيها الأحباب: الشاورما البرماوي عبارة عن بقايا إدام اللحم البائت أو اللحم المقدّد (غسّو خرغا) توضع داخل الصامولي، فلا تسأل عن قيمته الغذائية بعد ذلك.
لست أسخر والله من هذا الظرف القاسي الذي عاشه سلفنا في تلك الحقبة فقد كنت جزءا منهم، ولا تقل: وماذا تقصد بالقيمة الغذائية غير الاستهزاء؟
أخي بارك الله فيك، جميع أساتذة اليوم من الجماعة هم ممن نمت أجسامهم على هذه الأنواع من الأكلات، وهم اليوم خير من يؤدي دور المربي، فما العيب في ذلك إذن؟
وهكذا مع كل رنة جرس يخرج معلّم ويدخل آخر، ولكنه في إحدى المرات حدث ما يلي:
رنّ الجرس كعادته فإذا هم قيام ينطلقون انطلاق السهم من الرمية، فالتفتُّ إلى صاحبي كي أستجلي الأمر، هل من خطر وشيك يداهمنا؟ وإذا به هو الآخر قد ولّى فخرجت على أثره حتى باب المدرسة وإذا بالكتل البشرية من التلاميذ تنجرف من درجان المدرسة كالسيل في الوادي، واختلط الحابل بالنابل، فخرجت مع الجموع من البوابة وهنا سنحت لي فرصة سؤال أحد الناجين عما حصل ولِم خرج الجميع بهذه السرعة؟
فقال لي: إنها الصرفة.
سبحان الملك العلام!!! لقد كنا في الكُتّاب ننصرف واحدا تلو الآخر ولا جرس ولا نفخ في الصور، وإنما هي إشارة من الأستاذ باللَّي (الخرطوم) الذي بيده.
رجعت إلى منزلي بعد يوم حافل بالمجازفات والتحديات، ونفسي تتلهف للرجوع إلى تلك الطريقة البدائية في الدراسة في الكُتّاب.
وهكذا التحقت بالمدرسة التوحيدية أيها الأحباب عام 1404هـ.

يُتبَعْ
 
التعديل الأخير:

bozrok

ahmidamir@hotmail.com
إنضم
1 أبريل 2009
المشاركات
170
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
ksa
بارك الله فيك
جودة الأسلوب مع البساطة في الطرح والألفاظ
أشياء نفتقدها في أدباء الزمان خلا النزر اليسير منهم
فقد ظن كثير ممن رام الأدب في هذا العصر أن بهرجة الألفاظ وتعقيد العبارات هما معراجا الوصول إلى قممه
رأيتك في هذه القصة مقتفياً أثر الأديب الكبير علي الطنطاوي
ورجعت بذاكرتي للصف الأول الثانوي حين طلب مني المدرس قراءة قصة علي الطنطاوي مع البدوي (صلبا)
فلم أستطع إكمال القراءة من الضحك
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
إنضم
5 مايو 2009
المشاركات
102
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
أعيش فوق خيالها ..
وكانّي أقرأ صفحة من ( أيّام ) طه حسين ..
أو قصة من قصص ( أنَا ) للعقّاد ..

أسلُوب جميل .. بلغة طنطاوية - كما يقال - وسردٌ رائع ..

نحن نتابع بشغف أيهَا الصعلوك ..
 

أبو هيثم الشاكر

مراقب سابق
إنضم
26 أبريل 2009
المشاركات
786
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
مكة المكرمة

الأخ: بزرك
الأخ: أيوب قربان
الأخ: أبا المقداد
أشكر لكم هذا التشجيع، وإن كنت لا أستحق هذا الإطراء وذلك الثناء،.ولكن التشجيع لصغار مثلي يعني لهم الكثير،
وأرجو أن أكون قد استطعت أن أنقل عن عهدي القديم صورة معبّرة لأهل هذا العهد الجديد.
 

فتى أراكان

, مراقب قسم ساحة الرأي
إنضم
18 يونيو 2009
المشاركات
692
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
على ذروة جبل مكي
من حسن حظي أو سوئه لا أدري أني أدركت ذيول العهد الذي تفضل الأستاذ المربي برواية صفحة من أواخر صفحاته قبل أن يطويها التغيير والتجديد ..
وما أذكره الآن جيداً هو أن الكثير من بنات ذلك الزمان كن يدرسن مع الفتيان في مكان واحد قبل أن يبلغن طبعاً !!! ومع ذلك فلا أذكر أنهن كن يواجهن شيئاً من تحرش الفتيان وأذاهم .. كان المجتمع حينئذ - كما أتصوره الآن - صغيراً بريئاً نظيفاً طاهراً ، وكانت قلوب أفراده كذلك .. أما اليوم : ....
فليتنا لم نكبر ولم تكبر البهم !!
شكراً أبا الهيثم .. لو فتحت لنا صفحات أُخر من كتابك هذا !
 

أبو هيثم الشاكر

مراقب سابق
إنضم
26 أبريل 2009
المشاركات
786
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
مكة المكرمة
الأخ (فتى أركان)
ذكرتني ببيت المجنون قيس بن الملوّح:
تعلّقتُ ليلى وهْي غِرٌّ صغيرةٌ***ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البهمَ يا ليت أننا***إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
أشكر لك تفاعلك مع القصة.
 
إنضم
30 يونيو 2009
المشاركات
230
مستوى التفاعل
2
النقاط
0
الإقامة
بين ألم وأمل
بربّك أيها الصعلوك ،كم أنت جميل بهذه البراءة اللطيفة والظريفة ،وكأنهم أخرجوك من أدغال أفريقيا

كم أضحكتني ،أضحك الله ضرسك بتساؤلاتك الغريبة ،ألهذه الدرجة كنت غبيّا (هههههه)

والذي نفس ابن أبي الدنيا بيده لقد أحببتك وأحببت قلمك ورعة أسلوبك وبساطت كلمات ،وجمال عباراتك

ولابن أبي الدنيا ذكرياتُ جميلةُ في صباه ،أذكر بعضها إن لم تخُنّي الذاكرة ،أنني أحببت فتاة ً مجرد حب فقط

وأنا في السابع أو الثامن من عمري ،ومازلت أذكرها إلى هذا اليوم وهذا الحب منزوع منه جميع نوايا2010م

فقد كانت الدراسة مختلطه بين الجنسين والبراءة تترسّم في وجوهنا ،نعم إنها أيام القلوب النظيفة والنوايا الحسنه

وليوم عاشورا(فَاتْيَه) نكهةٌ خاصةٌ في الأحياء البرماويّة آن ذاك ،ذكريات لاتنسى ،وأيام جميلة قد عشناه

أيام (أمي تسلم عليكم وتقول عندكم بصل وفلفل )


 
إنضم
29 نوفمبر 2009
المشاركات
112
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
السعودية
جزاك الله خير خير على هذه القصة الرائعة أو بالأصح بداية حياتك العلمية
وأرجوا أن يستفيد منها الجميع المتعلم حتى يتأدب مع أستاذة وغير المتعلم حتى يسلك مسلك النور
وشكرا الله لك ياأباهيثم
محبك نورالأحمدي

:shakehand:​
 

أبو هيثم الشاكر

مراقب سابق
إنضم
26 أبريل 2009
المشاركات
786
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
مكة المكرمة
الأخ (ابن أبي الدنيا)
من الصعوبة ادعاء الحب البريء في السابعة من العمر، وأنه منزوع الدسم أقصد منزوع المقاصد غير السوية، ألم تسمع مجنون ليلى يقول عن نفسه وهو في ذلك العمر:
يقولون ليلى في العراق مريضة***ألا ليتني كنت الطبيب المداويا
يقولون عنها أَمةٌٌ حبشيةٌ***ولو لا سواد المسك ما انباع غاليا
عشقتُكِ يا ليلى وأنتِ صغيرةٌ***وكنتُ ابنَ سبعٍ ما بلغتُ الثمانيا
هذا في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان يا أخي وليس في 2010م
 
إنضم
25 أبريل 2009
المشاركات
917
مستوى التفاعل
4
النقاط
0
أخي الأديب الأريب : الصعلوك سابقاً
انتبه هناك من يحلل شخصيتك من وراء مثل هذه القصص الطفولية .. وصدقني لقد أمسكت بالعديد من خيوط شخصيتك المرحة والمحبة للعلم والفكاهة .. وسأكمل لك الكثير من هذه الخيوط إذا جمعتنا الأيام ...
ما كتبته صديقي العزيز إبداع وأكثر .. فلا تحرمنا
 

أبو حميد الأركاني

, قسم حياتنا الإجتماعية
إنضم
26 ديسمبر 2009
المشاركات
1,093
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
المملكة العربية السعودية
شيخي الفاضل: الشيخ أبا هيثمٍ الشاكر
اسمحوا لي هذه المرّة أن أبديَ إعجابي الشديد بقلمكم الأميزُ من المتميّز والأروعُ من الرائع
ولو كنت أديباً مثلكم وبليغاً لبذلت الجهد والعناء الكثير في وصفكم ومدحكم وما إلى ذلك ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظكم أينما كنتم وأينما تكونوا
 

عبده درويش

Active member
إنضم
28 يونيو 2009
المشاركات
2,400
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
مكة
14199-3-22088566.gif
 
إنضم
1 نوفمبر 2009
المشاركات
239
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
أرض الله الواسعة
قصة رائعة والأروع أسلوبك الذي انتهجته في كتابتها
ماأجمل تلك البداية المفعمة بمشاعر البراءة والطفولة :baby::baby:
أذكر أنني في أول يوم في المدرسة ذهبت إلى الفسحة حاملة شنطتي معي
(كيف أترك إحدى ممتلكاتي الخاصة في مكان غريب )

:laught2::laught2::laught2:
 
التعديل الأخير:

ميانمار

New member
إنضم
26 يوليو 2009
المشاركات
80
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
البلد الأمين ، مكة المكرمة ، بطحاء قريش
إهداء

أخي وقرة عيني
بمناسبة هذه القصة الرائعة التي تحكي عن أيام الأستاذ الفاضل: (مولوي آآموسون)
أهدي لك هذا التوقيع المتواضع ويشوبه شيء مما نمقته أناملك المتميزة.
 

المرفقات

  • أبو هيثم الشاكر.jpg
    48.6 KB · المشاهدات: 10
أعلى