فوائد
مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام
تأليف العلامة سماحة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي
رحمه الله رحمة واسعة آمين 1307 ـ 1376هـ
تحقيق الفقير إلى عفو ربه
محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام
المدرس في المسجد الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، خير البريّة والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحابته الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فإن «فوائد مستنبطة من قصة يوسف» عليه وعلى نبينا السلام، قد استنبطها شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في عام 1375هـ، وطبعت في حياته، ولكن كانت الطبعة مغلوطة، وقد طبعت عدة طبعات وجروا على منوال الطبعة الأولى، ومما زاد الطين بلة أنهم أضافوا حواشي لا فائدة منها، مع أنها واضحة أتم الوضوح لا تحتاج إلى توضيح، مع أن موضوعها مختصر مفيد المعاني ليس له نظير.
هذا، وقد عنيت بهذه الفوائد وصححت ما فيه من آيات، وعزوتها إلى محلاتها من كتاب الله، كما عزوت بعض الأحاديث إلى مخرِّجيها، ومن الله نستمد العون والتوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير.
هذا وأسأل الله أن يجزي شيخنا خير الجزاء، ويرفع درجته في العليين، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، إنه جواد كريم، وصلَّى الله على خير خلقه المصطفى من بريته نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى الله في جميع الأحوال، محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام، المدرس في المسجد الحرام 20/10/1424هـ.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، أما
بعد: فهذه فوائد مستنبطة من قصة يوسف صلّى الله عليه وسلّم([1])
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، فإن الله تعالى قصَّها علينا
مبسوطة، وقال في آخرها: {{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي
الأَلْبَابِ}} [يوسف: 111] .
والعبرة ما يعتبر به، ويعبر منه إلى معان وأحكام نافعة، وتوجيهات إلى الخيرات، وتحذير من المهلكات.
وقصص الأنبياء كلها كذلك، ولكن هذه القصة خصها الله بقوله: {{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}} [يوسف: 7] ، فيها آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد، لما فيها من التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن منحة إلى محنة([2])ومِنَّة، ومن ذلة ورِقّ إلى عز وملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات، ومن حزن وترح إلى سرور وفرح، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة، فتبارك من قصها ووضحها وبيَّنها.
فمن فوائد هذه السورة أن فيها أصولاً لعلم تعبير الرؤيا؛ فإن علم تعبير الرؤيا علم عظيم، منهم من بناه على حسن الفهم والعبور من الألفاظ والمحسوسات والمعنويات، أو ما يناسبها بحسب حال الرائي، وبحسب الوقت والحال المتعلقة بالرؤيا. وقد أثنى الله على يوسف عليه الصلاة والسلام بعلمه بتأويل الأحاديث؛ تأويل أحاديث الأحكام الشرعية والأحاديث المتعلقة بتعبير الرؤيا، والفرق بين الأحلام، التي هي أضغاث أحلام لا تأويل لها، مثل ما يراه من يفكر ويطيل تأمله لبعض الأمور فإنه كثيراً ما يرى في منامه من جنس ما يفكر به في يقظته، فهذا النوع الغالب عليه أنه أضغاث أحلام لا تعبير له، وكذلك نوع آخر ما يلقيه الشيطان على روح النائم من المرائي الكاذبة والمعاني المتخبطة، فهذه أيضاً لا تعبير لها، ولا ينبغي للعاقل أن يشغل بها فكره، بل ينبغي له أن يلهى([3])عنها:
وأما الرؤيا الصحيحة فهي إلهامات يلهمها الله للروح عند تجردها عن البدن وقت النوم، أو أمثال مضروبة يضربها الملك للإنسان ليفهم بها ما يناسبها. وقد يرى الشيء على حقيقته ويكون تعبيره هو ما رآه في منامه([4]):
فيوسف صلّى الله عليه وسلّم أعطاه الله من العلم ما يميز به بين المرائي الصحيحة والباطلة والحق والباطل منها، وهذه القصة فيها
الدلالة على تعبير الرؤيا من وجوه؛ أحدها رؤيا يوسف التي قصها على أبيه يعقوب صلّى الله عليه وسلّم: {{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَِبِيه ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}} [يوسف: 4] ففسرها([5])يعقوب صلّى الله عليه وسلّم بغاياتها وما تؤول إليه وبوسائلها التي تتقدم عليها، ففسر الشمس والقمر بأبي يوسف وأمه، والكواكب الأحد عشر بإخوته، وإن الحال سيكون مئآلها أن الجميع ليسجدون ليوسف ويخضعون له، ولهذا لما حصل الاجتماع ودخل أبوه وأمه وإخوته مصر ورفع أبويه على العرش خر الجميع له سجداً، وقال يوسف متذكراً ذلك التعبير والتفسير([6]): {{ياأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}} [يوسف: 100] ، وهذا أمر عظيم اتصل بيوسف في الحال أن يكون معظماً تعظيماً بليغاً عند أبويه وإخوته، وكذلك عند الناس.
وهذه الغاية تستدعي وسائل ومقدمات لا تحصل إلا
بها؛ وهو العلم الكثير العظيم والعمل الصالح والإخلاص والاجتباء
من الله، والقيام بحق الله وحقوق الخلق، فلهذا قال سبحانه في ذكر السبب الموصل لهذه الغاية الجليلة: {{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ}} [يوسف: 6] ، يعني: لا بد أن يتم الله عليك نعمته بتعليم العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاجتباء من الله وحصول الأخلاق الجميلة والمقامات الجليلة، فتبشره بحصول هذه الأمور ثم بالوصول إلى الرفعة في الدنيا والآخرة.
وفي ضمن([7])هذا التعبير من يعقوب ليوسف بشارة له وتسهيل لما سيناله من المشقات والكروب مع إخوته وفي السجن، فإن من عَلِمَ أن المكاره والمشقات تفضي إلى الخير والراحات تسلَّى وهانت عليه مشقتها، وسهلت عليه وطأتها، وحصل بذلك من اللطف والروْح شيء عظيم، وهذا من جملة اللطف الذي أشار إليه يوسف في قوله: {{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}} [يوسف: 100] ، وهذا من مقتضى حكمة الله أن المراتب العاليات لا تنال إلا بالوسائل الجليلة، ولهذا قال: {{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [يوسف: 6] .
ومن فوائد هذا التعبير لرؤيا يوسف بشارة عظيمة ليعقوب وأم يوسف وإخوته بحصول الرفعة والصلاح والخير؛ فيعقوب صلّى الله عليه وسلّم من أكابر الأنبياء وأفاضل الأصفياء، وأمه لها من الخير والصلاح والرفعة في الدنيا والآخرة، حيث شبهت بالشمس أو بالقمر على اختلاف القولين. وإخوة يوسف وإن كان قد جرى منهم في حق أباهم وأخاهم من الأذية والعقوق والقطيعة ما جرى، ولكن أباهم وأخاهم عفيا عنهم، واستغفرا الله تعالى أرحم الراحمين، فالشمس والقمر والنجوم تضمنت النور والارتفاع، ولكنها متفاوتة في نورها بحسب التفاوت بين الأبوين وبين الإخوة.
فالحاصل أن هذه الرؤيا تضمنت ما حصل ليوسف صلّى الله عليه وسلّم من خير الدنيا والآخرة، والمقامات العظيمة والوسائل والمنن، التي أوردتها هذه الأمور وما حصل لأبويه وإخوته من مشاركته في خير الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.
* * *
الفصل الأول
وأما رؤيا الفَتَيين حيث: {{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا}} [يوسف: 36] ، فتلطفوا ليوسف أن ينبأهما بتأويل رؤياهما لما شاهدوا من إحسانه للأشياء وإحسانه إلى الخلق، ففسر رؤيا من رأى أنه يعصر خمراً إنه ينجو من سجنه، ويعود إلى مرتبته وخدمته لسيده، فيعصر له العنب الذي يؤول إلى الخمر، وفسر رؤيا الآخر فيقتل ثم يصلب فتأكل الطير من رأسه.
فالأول: رؤياه جاءت على وجه الحقيقة، والآخر رؤياه جاءت على وجه المثال، وإنه يقتل ومع قتله يصلب ولا يدفن حتى تأكل الطيور من رأسه، وهذا من الفهم العجيب والغوص إلى المعاني الدقيقة.
وذلك أن العادة أن المقتول يدفن في الحال ولا تتمكن السباع والطيور من الأكل منه، ففهم أن هذا سيقتل ولا يدفن سريعاً حتى يصل إلى هذه الحال، وفي هذا من فضيحته وخزيته وسوء مصيره الدنيوي ما تقشعر منه الجلود، وحيث علم أن هذه الرؤيا صحيحة لا بد من وقوعها، قال لهما: {{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}}[يوسف:41]، وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يعبر عن ظن وتوهم وإنما يعبر عن علم ويقين، وأما المناسبة في ذلك أن الطيور لا تقرب الحي وإنما تتناول الميت إذا لم
يكن عنده أحد، وهذا إنما يكون بعد قتله وصلبه.
ومن كمال يوسف ونصحه وفطنته العجيبة أنهما لما قصَّا عليه رؤياهما، تأنى في تعبيرها ووعدهما بتعبيرها، بأسرع وقت فقال: {{لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}} [يوسف: 37] ، فوعدهما بتعبيرها قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئنا ويشتاقا إلى تعبيرها، وليتمكن من دعوتهما ليكون أدعى لقبول الدعوة إلى الله، لأن الدعوة لهما إلى الله أعظم من تعبير رؤياهما، فدعاهما إلى الله بأمرين:
أحدهما: بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي أوصله إلى هذه الحال الرفيعة، بقوله: {{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}} [يوسف: 37 ـ 38] .
الأمر الثاني: دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري، فقال: {{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}} [يوسف: 39، 40] .
فإن من توحد بالكمال من كل وجه، وبالقهر للعالم
العلوي والسفلي المستحق للألوهية الكاملة، الذي خلق الخلق
لعبادته وأمرهم بها، وله الحكم على عباده في الدنيا
والآخرة، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده دون المعبودات الناقصة المتفرقة التي كل قوم يَدَّعون إلهيتها، وليس فيها من معاني الإلهية شيء ولا استحقاق وإنما هي أسماء اصطلحوا على تسميتها؛ أسماء بلا معاني، فرأى صلّى الله عليه وسلّم دعوتهما إلى الله أولى بالتقديم على تفسير رؤياهما وأنفع لهما ولغيرهما.
الفصل الثاني
وأما رؤيا الملك فإنه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف، وسبع سنبلات خضر يأكلهن ويستولي عليهن سبع سنبلات يابسات ضعيفات([8])، فهالته وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة، فلم يكن عند أحد منهم علم بتعبيرها، وقالوا: {{أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}} [يوسف: 44] .
وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف، وما هو عليه من العلم العظيم والعلم بالتعبير، وتفطن لوصيته التي أنساه الشيطان ذكر ربه، لحكمة قد فصح أمرها، وأنه لا يخرج من السجن إلا بعد
اشتهاره، وتميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك.
فطلب هذا الرجل من الملك أن يرسله إلى يوسف وإنه كفيل بمعرفة تفسيرها، فلما جاء يوسف قال له: يا {{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}} [يوسف: 46] .
فإن الملك والناس معه أرسلوني إليك لتفسيرها لهم، وهم بانتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق، ولهذا قال: {{لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى
النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}} [يوسف: 46] ما ألهم([9])الملك وأزعجه ولاعَه.
ففي الحال فسَّرها يوسف صلّى الله عليه وسلّم، وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير؛ فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات، تتقدم على السنين المجدبات، وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها، وإن بعد هذه السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وإنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات فيزرعون زروعاً هائلة أزيد بكثير من المعتاد، ولهذا: {{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}}([10]) [يوسف: 47] .
ومن المعلوم أن جميع السنين يزرع الناس، لكنه أراد منهم أن يزرعوا زروعاً كثيرة، ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه، وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصلت بالتحصين والاقتصاد فقال: {{فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}} [يوسف: 37] ، أي: احفظوا الحاصلات من الزرع حفظاً تسلم به من الفساد والسوس بأن تبقى في سنابلها، ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفوا في الإنفاق، بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير. وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي سبع سنين مجدبات شديدات تشمل الديار المصرية وما حولها، وإنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلاً مما تحصنون، ووجه المناسبة أنه كما تقدم أن الرؤيا تعبر بحال رائيها، والمناسبات المتعلقة بها كالرائي لها الملك الذي تتعلق به أركان الرعية وأمورها، ولهذا كانت رؤياه ليست خاصة له بل تشمل الناس والرعية. ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهر في البقر من وجهين:
أحدهما: إنها هي التي في الغالب يحرث عليها الأرض والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها.
والوجه الثاني: البقر من المواشي التي سمنها وعجفها تبع للسنين أيضاً، فإذا أخصبت سمنت وإذا أجدبت عجفت وهَزِلَتْ، وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصباتِ، وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات، فكانت رؤياه في البقرة والسنابل من أوصاف السنين وآثارها ومن ذكر الوسائل والغايات، فالحرث للأراضي وسيلة ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود.
وأما قوله: {{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ}} [يوسف: 49] ، أي: يحصل للناس فيه غيث مغيث تعيد الأراضي خصبها ويزول عنها جدبها، وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع، فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها ويرفع جدبها، ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقى في الأرض من آثار الخضر والنبات والزروع ونحوها لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم، وهذا ظاهر جداً، أخذه من رؤيا الملك.
ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى مع وضوحه، بل قالوا: لعل يوسف صلّى الله عليه وسلّم
جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه
يعصرون، والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد، وأيضاً ظاهر من السياق، فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحاً لرؤيا الملك([11]).
ثم اعلم أن رؤيا الملك وتعبير يوسف لها، وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف، وعلى الملك وعلى الناس، فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل أن يعدُّوا لها عدتها، فيقع الضرر الكبير على الأقطار المصرية وعلى ما جاورها.
فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق، ألا ترى كيف شمل الجدب البلاد المصرية، وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها، حتى احتاجوا إلى الاكتيال من مصر، واحتاج يوسف أن يقدر للجميع ويوزع عليهم توزيعاً عادلاً، فيه الرفق بالجميع والإبقاء عليهم. وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن، وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من {{الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}}([12]) [يوسف: 56] ، وهذا من إحسانه، والله لا يضيع أجر المحسنين، ومع هذا الفضل وفضل الله أعظم من ذلك يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره([13])ويختصه ويجمع له خير الدنيا والآخرة.
الفصل الثالث
ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده، وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك مهما أمكنه، وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به، واتفاقهم فيما بينهم، ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة، ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم، سعوا في أمر وخيم؛ وهو التفريق بينه وبين أبيه، فقالوا: {{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}} [يوسف: 8، 9] .
وهذا صريح جداً؛ أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا
بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تمييزه بالمحبة، خلاف ما ذكر كثير من المفسرين أن يوسف أخبرهم برؤياه، فحسدوه لذلك،
فإنه مناف للآية الكريمة وسوء ظن بيوسف حيث استكتمهُ أبوه، فقال: {{يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}} [يوسف: 5] ، فيوسف أبر وأعقل من أن يخبرهم بها، ولكن كثير من الإسرائيليات تروج على كثير من الناس، مع أن أقل تأمل في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها.
والمقصود أن الذي حمل إخوة يوسف على ما فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف، ومع هذا فلا يحل هذا الأمر الشنيع وهم يعلمون أنه لا يحل لهم، ولكنهم قالوا: افعلوا هذا الجرم العظيم وتوبوا إلى الله بعده، فلهذا قالوا: {{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}} [يوسف: 9] ، وهذا لا يحل أن يواقع العبد الذنب بأي حالة يكون ولو أضمر أنه سيتوب منه، فالذنب يجب اجتنابه، فإذا وقع وجبت التوبة منه. ولعل من حكمة الله ورحمته بيعقوب ما قدَّره عليه من الفرقة التي أحدثت له من الحزن والمصيبة ما أحدثت رفعة لمقاماته في الدنيا والآخرة، وليكون للنعمة عند حصول الاجتماع لها الموقع الأكبر والشكر الكثير والثناء على الله بها، وليصل ولده يوسف إلى ما وصل إليه من المقامات الجلية، {{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [البقرة: 216] .
ومن فوائدها الحث على التحرز مما يخشى ضرره لقوله: {{يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}} [يوسف: 5] ، وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين أرسله معهم، ثم عند إرسال أخيه بنيامين بعد ذلك، أخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك. فالإنسان مأمور بالاحتراز، فإن نَفَعَ فذاك، وإلا لم يلم العبد نفسه.
ومنها: أن من الحزم إذا أراد العبد فعلاً من الأفعال أن ينظر إليه من جميع نواحيه، ويقدر كل احتمال ممكن، وأن الاحتراز بسوء الظن لا يضر إذا لم يحقق، بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره.
ولو تضمن ظن السوء بالغير إذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه، كما في هذه الآية، وكما قويت القرائن في قوله: {{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}} [يوسف: 64] ، فإنه سبق لهم في أخيه ما سبق، فلا يلام يعقوب إذا ظن بهم هذا الظن، وإن كانوا في الأخ الأخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد.
ومنها : الحذر من الذنوب التي يترتب عليها ذنوب أخر ويتسلسل شرها كما فعل إخوة يوسف بيوسف، فإن نفس فعلهم فيه عدة جرائم في حق الله، وفي حق والديهِ وقرابته، وفي حق يوسف، ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى ذكر يوسف وقضيته، أخبروا بهذا الكذب الفظيع، ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من أبيهم السماح {{قَالُوا ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}} [يوسف: 97] .
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض؛ فحين اتفقوا على التفريق بين يوسف وأبيه، ورأى أكثرهم أن القتل يحصل به الإبعاد الأبدي، {{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}} [يوسف: 10] ، فخفف به الشر عنهم، ولهذا لما وردت السيارة الماء وأدلى واردهم دلوه تبشر بوجوده، وقال:
{{هَذَا غُلاَمٌ}} [يوسف: 19] ، وكان إخوته حوله فقالوا: إنه غلام آبق منّا وتبايعوه معهم {{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}} [يوسف: 20] . وإنما قصدهم إبعاده والتأكيد على مشتريه منهم صورة أن يحتفظ به لئلا يهرب، ومن لطف الله أن الذي أخذه وباعه([14])في مصر على عزيزها فحين رآه رغب فيه جداً
وأحبه، وقال لامرأته: {{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}} [يوسف: 21] ، فبقي مكرماً عندهم معفى من الأعمال الشاقة وغيرها متجرداً للخير، وهذا من اللطف بيوسف، ولهذا قال: {{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}} [يوسف: 21] ، فكان تفرغه عند العزيز من أسباب تعلمه للعلوم النافعة ليكون أساساً لما بعده من الرفعة في الدنيا والآخرة، كما أن رؤياه مقدمة اللطف، وكما أن الله أوحى إليه حين ألقاه إخوته في الجب {{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}} [يوسف: 15] .
وهذه بشارة له بالنجاة مما هو فيه، وإنه سيصل إلى أن ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون، وقد وقع ذلك في قوله: {{هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}} إلى آخر الآيات، وألطاف المولى لا تخطر على البال.
ومنها: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية لا بنقص البداية، وذلك لأن إخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم، لكن في آخر أمرهم ونهايته تابوا إلى الله وطلبوا السماح من أخيهم يوسف ومن والديهم([15])الاستغفار فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل، فعفى الله عنهم وأوصلهم إلى الكمال اللائق بهم.
قيل: إن الله جعلهم أنبياء؛ كما قاله غير واحد من المفسرين في تفسير الأسباط إنهم إخوة يوسف الاثنا([16])عشرة([17])، وقيل: بل كانوا قوماً صالحين كما قاله آخرون، وهو الظاهر، لأن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل، وهو اسم لعموم القبيلة لاَ لأَِوْلاَدِ يعقوب الاثني عشر منهم، فهم آباءَ الأسباط وهم من الأسباط، ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها وهذه صفة أهل العلم والإيمان، والله أعلم.
ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين، وقد تفسر بالملوك والمناسبة ظاهرة.
ومنها: تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب الصبر، الصبر الاضطراري: وهو صبر على أذية إخوته، وما ترتب عليها من بُعْدِه عن أبويه، وصبره في السجن بضع سنين. والصبر الاختياري: هو صبر على مراودة سيدته امرأة العزيز مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها، وكونها هي التي راودته عن نفسه وغلقت الأبواب، وهو في غاية ريعان الشباب، وليس عنده من قرابته ومعارفه الأصليين أحد.
ومع هذه الأمور ومع قوة الشهوة منعه الإيمان([18])الصادق والإخلاص الكامل من مواقعة المحذور، وهذا هو المراد بقوله: {{لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}} [يوسف: 24] ، فهو برهان الإيمان الذي يغلب جميع القوى النفسية، فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاَ ظل إلا ظله، وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ([19]).
ثم بعد ذلك راودته المرأة وراودته، واستعانت بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن، فلم تحدثه نفسه ولم يزل الإيمان ملازماً له في أحواله، حتى قال بعد ما توعدته بقولها: {{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}} [يوسف: 32، 33] ، فاختار السجن على مواقعة المحظور، ومع ذلك فلم يتكل على نفسه بل استغاث بربه أن يصرف عنه شرهن، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
وكما أنه كمل مراتب الصبر فقد كمل مراتب العدل والإحسان للرعية حين تولى خزائن البلاد المصرية، وكمل مراتب العفو والكرم حين قال له إخوته: {{تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}} [يوسف: 91، 92] ، فارتقى صلّى الله عليه وسلّم إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال، ونشر الله له الثنائين الكاملين في العالمين.
يتبع ..........
								مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام
تأليف العلامة سماحة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي
رحمه الله رحمة واسعة آمين 1307 ـ 1376هـ
تحقيق الفقير إلى عفو ربه
محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام
المدرس في المسجد الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، خير البريّة والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحابته الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فإن «فوائد مستنبطة من قصة يوسف» عليه وعلى نبينا السلام، قد استنبطها شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في عام 1375هـ، وطبعت في حياته، ولكن كانت الطبعة مغلوطة، وقد طبعت عدة طبعات وجروا على منوال الطبعة الأولى، ومما زاد الطين بلة أنهم أضافوا حواشي لا فائدة منها، مع أنها واضحة أتم الوضوح لا تحتاج إلى توضيح، مع أن موضوعها مختصر مفيد المعاني ليس له نظير.
هذا، وقد عنيت بهذه الفوائد وصححت ما فيه من آيات، وعزوتها إلى محلاتها من كتاب الله، كما عزوت بعض الأحاديث إلى مخرِّجيها، ومن الله نستمد العون والتوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير.
هذا وأسأل الله أن يجزي شيخنا خير الجزاء، ويرفع درجته في العليين، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، إنه جواد كريم، وصلَّى الله على خير خلقه المصطفى من بريته نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى الله في جميع الأحوال، محمد بن سليمان بن عبد العزيز آل بسام، المدرس في المسجد الحرام 20/10/1424هـ.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، أما
بعد: فهذه فوائد مستنبطة من قصة يوسف صلّى الله عليه وسلّم([1])
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، فإن الله تعالى قصَّها علينا
مبسوطة، وقال في آخرها: {{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي
الأَلْبَابِ}} [يوسف: 111] .
والعبرة ما يعتبر به، ويعبر منه إلى معان وأحكام نافعة، وتوجيهات إلى الخيرات، وتحذير من المهلكات.
وقصص الأنبياء كلها كذلك، ولكن هذه القصة خصها الله بقوله: {{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}} [يوسف: 7] ، فيها آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد، لما فيها من التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن منحة إلى محنة([2])ومِنَّة، ومن ذلة ورِقّ إلى عز وملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات، ومن حزن وترح إلى سرور وفرح، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة، فتبارك من قصها ووضحها وبيَّنها.
فمن فوائد هذه السورة أن فيها أصولاً لعلم تعبير الرؤيا؛ فإن علم تعبير الرؤيا علم عظيم، منهم من بناه على حسن الفهم والعبور من الألفاظ والمحسوسات والمعنويات، أو ما يناسبها بحسب حال الرائي، وبحسب الوقت والحال المتعلقة بالرؤيا. وقد أثنى الله على يوسف عليه الصلاة والسلام بعلمه بتأويل الأحاديث؛ تأويل أحاديث الأحكام الشرعية والأحاديث المتعلقة بتعبير الرؤيا، والفرق بين الأحلام، التي هي أضغاث أحلام لا تأويل لها، مثل ما يراه من يفكر ويطيل تأمله لبعض الأمور فإنه كثيراً ما يرى في منامه من جنس ما يفكر به في يقظته، فهذا النوع الغالب عليه أنه أضغاث أحلام لا تعبير له، وكذلك نوع آخر ما يلقيه الشيطان على روح النائم من المرائي الكاذبة والمعاني المتخبطة، فهذه أيضاً لا تعبير لها، ولا ينبغي للعاقل أن يشغل بها فكره، بل ينبغي له أن يلهى([3])عنها:
وأما الرؤيا الصحيحة فهي إلهامات يلهمها الله للروح عند تجردها عن البدن وقت النوم، أو أمثال مضروبة يضربها الملك للإنسان ليفهم بها ما يناسبها. وقد يرى الشيء على حقيقته ويكون تعبيره هو ما رآه في منامه([4]):
فيوسف صلّى الله عليه وسلّم أعطاه الله من العلم ما يميز به بين المرائي الصحيحة والباطلة والحق والباطل منها، وهذه القصة فيها
الدلالة على تعبير الرؤيا من وجوه؛ أحدها رؤيا يوسف التي قصها على أبيه يعقوب صلّى الله عليه وسلّم: {{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَِبِيه ياأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}} [يوسف: 4] ففسرها([5])يعقوب صلّى الله عليه وسلّم بغاياتها وما تؤول إليه وبوسائلها التي تتقدم عليها، ففسر الشمس والقمر بأبي يوسف وأمه، والكواكب الأحد عشر بإخوته، وإن الحال سيكون مئآلها أن الجميع ليسجدون ليوسف ويخضعون له، ولهذا لما حصل الاجتماع ودخل أبوه وأمه وإخوته مصر ورفع أبويه على العرش خر الجميع له سجداً، وقال يوسف متذكراً ذلك التعبير والتفسير([6]): {{ياأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}} [يوسف: 100] ، وهذا أمر عظيم اتصل بيوسف في الحال أن يكون معظماً تعظيماً بليغاً عند أبويه وإخوته، وكذلك عند الناس.
وهذه الغاية تستدعي وسائل ومقدمات لا تحصل إلا
بها؛ وهو العلم الكثير العظيم والعمل الصالح والإخلاص والاجتباء
من الله، والقيام بحق الله وحقوق الخلق، فلهذا قال سبحانه في ذكر السبب الموصل لهذه الغاية الجليلة: {{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ}} [يوسف: 6] ، يعني: لا بد أن يتم الله عليك نعمته بتعليم العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاجتباء من الله وحصول الأخلاق الجميلة والمقامات الجليلة، فتبشره بحصول هذه الأمور ثم بالوصول إلى الرفعة في الدنيا والآخرة.
وفي ضمن([7])هذا التعبير من يعقوب ليوسف بشارة له وتسهيل لما سيناله من المشقات والكروب مع إخوته وفي السجن، فإن من عَلِمَ أن المكاره والمشقات تفضي إلى الخير والراحات تسلَّى وهانت عليه مشقتها، وسهلت عليه وطأتها، وحصل بذلك من اللطف والروْح شيء عظيم، وهذا من جملة اللطف الذي أشار إليه يوسف في قوله: {{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}} [يوسف: 100] ، وهذا من مقتضى حكمة الله أن المراتب العاليات لا تنال إلا بالوسائل الجليلة، ولهذا قال: {{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [يوسف: 6] .
ومن فوائد هذا التعبير لرؤيا يوسف بشارة عظيمة ليعقوب وأم يوسف وإخوته بحصول الرفعة والصلاح والخير؛ فيعقوب صلّى الله عليه وسلّم من أكابر الأنبياء وأفاضل الأصفياء، وأمه لها من الخير والصلاح والرفعة في الدنيا والآخرة، حيث شبهت بالشمس أو بالقمر على اختلاف القولين. وإخوة يوسف وإن كان قد جرى منهم في حق أباهم وأخاهم من الأذية والعقوق والقطيعة ما جرى، ولكن أباهم وأخاهم عفيا عنهم، واستغفرا الله تعالى أرحم الراحمين، فالشمس والقمر والنجوم تضمنت النور والارتفاع، ولكنها متفاوتة في نورها بحسب التفاوت بين الأبوين وبين الإخوة.
فالحاصل أن هذه الرؤيا تضمنت ما حصل ليوسف صلّى الله عليه وسلّم من خير الدنيا والآخرة، والمقامات العظيمة والوسائل والمنن، التي أوردتها هذه الأمور وما حصل لأبويه وإخوته من مشاركته في خير الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.
* * *
الفصل الأول
وأما رؤيا الفَتَيين حيث: {{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا}} [يوسف: 36] ، فتلطفوا ليوسف أن ينبأهما بتأويل رؤياهما لما شاهدوا من إحسانه للأشياء وإحسانه إلى الخلق، ففسر رؤيا من رأى أنه يعصر خمراً إنه ينجو من سجنه، ويعود إلى مرتبته وخدمته لسيده، فيعصر له العنب الذي يؤول إلى الخمر، وفسر رؤيا الآخر فيقتل ثم يصلب فتأكل الطير من رأسه.
فالأول: رؤياه جاءت على وجه الحقيقة، والآخر رؤياه جاءت على وجه المثال، وإنه يقتل ومع قتله يصلب ولا يدفن حتى تأكل الطيور من رأسه، وهذا من الفهم العجيب والغوص إلى المعاني الدقيقة.
وذلك أن العادة أن المقتول يدفن في الحال ولا تتمكن السباع والطيور من الأكل منه، ففهم أن هذا سيقتل ولا يدفن سريعاً حتى يصل إلى هذه الحال، وفي هذا من فضيحته وخزيته وسوء مصيره الدنيوي ما تقشعر منه الجلود، وحيث علم أن هذه الرؤيا صحيحة لا بد من وقوعها، قال لهما: {{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}}[يوسف:41]، وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يعبر عن ظن وتوهم وإنما يعبر عن علم ويقين، وأما المناسبة في ذلك أن الطيور لا تقرب الحي وإنما تتناول الميت إذا لم
يكن عنده أحد، وهذا إنما يكون بعد قتله وصلبه.
ومن كمال يوسف ونصحه وفطنته العجيبة أنهما لما قصَّا عليه رؤياهما، تأنى في تعبيرها ووعدهما بتعبيرها، بأسرع وقت فقال: {{لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}} [يوسف: 37] ، فوعدهما بتعبيرها قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئنا ويشتاقا إلى تعبيرها، وليتمكن من دعوتهما ليكون أدعى لقبول الدعوة إلى الله، لأن الدعوة لهما إلى الله أعظم من تعبير رؤياهما، فدعاهما إلى الله بأمرين:
أحدهما: بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي أوصله إلى هذه الحال الرفيعة، بقوله: {{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}} [يوسف: 37 ـ 38] .
الأمر الثاني: دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري، فقال: {{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}} [يوسف: 39، 40] .
فإن من توحد بالكمال من كل وجه، وبالقهر للعالم
العلوي والسفلي المستحق للألوهية الكاملة، الذي خلق الخلق
لعبادته وأمرهم بها، وله الحكم على عباده في الدنيا
والآخرة، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده دون المعبودات الناقصة المتفرقة التي كل قوم يَدَّعون إلهيتها، وليس فيها من معاني الإلهية شيء ولا استحقاق وإنما هي أسماء اصطلحوا على تسميتها؛ أسماء بلا معاني، فرأى صلّى الله عليه وسلّم دعوتهما إلى الله أولى بالتقديم على تفسير رؤياهما وأنفع لهما ولغيرهما.
الفصل الثاني
وأما رؤيا الملك فإنه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف، وسبع سنبلات خضر يأكلهن ويستولي عليهن سبع سنبلات يابسات ضعيفات([8])، فهالته وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة، فلم يكن عند أحد منهم علم بتعبيرها، وقالوا: {{أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}} [يوسف: 44] .
وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف، وما هو عليه من العلم العظيم والعلم بالتعبير، وتفطن لوصيته التي أنساه الشيطان ذكر ربه، لحكمة قد فصح أمرها، وأنه لا يخرج من السجن إلا بعد
اشتهاره، وتميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك.
فطلب هذا الرجل من الملك أن يرسله إلى يوسف وإنه كفيل بمعرفة تفسيرها، فلما جاء يوسف قال له: يا {{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}} [يوسف: 46] .
فإن الملك والناس معه أرسلوني إليك لتفسيرها لهم، وهم بانتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق، ولهذا قال: {{لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى
النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}} [يوسف: 46] ما ألهم([9])الملك وأزعجه ولاعَه.
ففي الحال فسَّرها يوسف صلّى الله عليه وسلّم، وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير؛ فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات، تتقدم على السنين المجدبات، وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها، وإن بعد هذه السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وإنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات فيزرعون زروعاً هائلة أزيد بكثير من المعتاد، ولهذا: {{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}}([10]) [يوسف: 47] .
ومن المعلوم أن جميع السنين يزرع الناس، لكنه أراد منهم أن يزرعوا زروعاً كثيرة، ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه، وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصلت بالتحصين والاقتصاد فقال: {{فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}} [يوسف: 37] ، أي: احفظوا الحاصلات من الزرع حفظاً تسلم به من الفساد والسوس بأن تبقى في سنابلها، ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفوا في الإنفاق، بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير. وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي سبع سنين مجدبات شديدات تشمل الديار المصرية وما حولها، وإنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلاً مما تحصنون، ووجه المناسبة أنه كما تقدم أن الرؤيا تعبر بحال رائيها، والمناسبات المتعلقة بها كالرائي لها الملك الذي تتعلق به أركان الرعية وأمورها، ولهذا كانت رؤياه ليست خاصة له بل تشمل الناس والرعية. ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهر في البقر من وجهين:
أحدهما: إنها هي التي في الغالب يحرث عليها الأرض والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها.
والوجه الثاني: البقر من المواشي التي سمنها وعجفها تبع للسنين أيضاً، فإذا أخصبت سمنت وإذا أجدبت عجفت وهَزِلَتْ، وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصباتِ، وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات، فكانت رؤياه في البقرة والسنابل من أوصاف السنين وآثارها ومن ذكر الوسائل والغايات، فالحرث للأراضي وسيلة ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود.
وأما قوله: {{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ}} [يوسف: 49] ، أي: يحصل للناس فيه غيث مغيث تعيد الأراضي خصبها ويزول عنها جدبها، وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع، فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها ويرفع جدبها، ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقى في الأرض من آثار الخضر والنبات والزروع ونحوها لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم، وهذا ظاهر جداً، أخذه من رؤيا الملك.
ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى مع وضوحه، بل قالوا: لعل يوسف صلّى الله عليه وسلّم
جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه
يعصرون، والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد، وأيضاً ظاهر من السياق، فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحاً لرؤيا الملك([11]).
ثم اعلم أن رؤيا الملك وتعبير يوسف لها، وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف، وعلى الملك وعلى الناس، فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل أن يعدُّوا لها عدتها، فيقع الضرر الكبير على الأقطار المصرية وعلى ما جاورها.
فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق، ألا ترى كيف شمل الجدب البلاد المصرية، وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها، حتى احتاجوا إلى الاكتيال من مصر، واحتاج يوسف أن يقدر للجميع ويوزع عليهم توزيعاً عادلاً، فيه الرفق بالجميع والإبقاء عليهم. وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن، وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من {{الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}}([12]) [يوسف: 56] ، وهذا من إحسانه، والله لا يضيع أجر المحسنين، ومع هذا الفضل وفضل الله أعظم من ذلك يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره([13])ويختصه ويجمع له خير الدنيا والآخرة.
الفصل الثالث
ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده، وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك مهما أمكنه، وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به، واتفاقهم فيما بينهم، ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة، ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم، سعوا في أمر وخيم؛ وهو التفريق بينه وبين أبيه، فقالوا: {{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}} [يوسف: 8، 9] .
وهذا صريح جداً؛ أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا
بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تمييزه بالمحبة، خلاف ما ذكر كثير من المفسرين أن يوسف أخبرهم برؤياه، فحسدوه لذلك،
فإنه مناف للآية الكريمة وسوء ظن بيوسف حيث استكتمهُ أبوه، فقال: {{يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}} [يوسف: 5] ، فيوسف أبر وأعقل من أن يخبرهم بها، ولكن كثير من الإسرائيليات تروج على كثير من الناس، مع أن أقل تأمل في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها.
والمقصود أن الذي حمل إخوة يوسف على ما فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف، ومع هذا فلا يحل هذا الأمر الشنيع وهم يعلمون أنه لا يحل لهم، ولكنهم قالوا: افعلوا هذا الجرم العظيم وتوبوا إلى الله بعده، فلهذا قالوا: {{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}} [يوسف: 9] ، وهذا لا يحل أن يواقع العبد الذنب بأي حالة يكون ولو أضمر أنه سيتوب منه، فالذنب يجب اجتنابه، فإذا وقع وجبت التوبة منه. ولعل من حكمة الله ورحمته بيعقوب ما قدَّره عليه من الفرقة التي أحدثت له من الحزن والمصيبة ما أحدثت رفعة لمقاماته في الدنيا والآخرة، وليكون للنعمة عند حصول الاجتماع لها الموقع الأكبر والشكر الكثير والثناء على الله بها، وليصل ولده يوسف إلى ما وصل إليه من المقامات الجلية، {{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [البقرة: 216] .
ومن فوائدها الحث على التحرز مما يخشى ضرره لقوله: {{يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}} [يوسف: 5] ، وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين أرسله معهم، ثم عند إرسال أخيه بنيامين بعد ذلك، أخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك. فالإنسان مأمور بالاحتراز، فإن نَفَعَ فذاك، وإلا لم يلم العبد نفسه.
ومنها: أن من الحزم إذا أراد العبد فعلاً من الأفعال أن ينظر إليه من جميع نواحيه، ويقدر كل احتمال ممكن، وأن الاحتراز بسوء الظن لا يضر إذا لم يحقق، بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره.
ولو تضمن ظن السوء بالغير إذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه، كما في هذه الآية، وكما قويت القرائن في قوله: {{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}} [يوسف: 64] ، فإنه سبق لهم في أخيه ما سبق، فلا يلام يعقوب إذا ظن بهم هذا الظن، وإن كانوا في الأخ الأخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد.
ومنها : الحذر من الذنوب التي يترتب عليها ذنوب أخر ويتسلسل شرها كما فعل إخوة يوسف بيوسف، فإن نفس فعلهم فيه عدة جرائم في حق الله، وفي حق والديهِ وقرابته، وفي حق يوسف، ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى ذكر يوسف وقضيته، أخبروا بهذا الكذب الفظيع، ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من أبيهم السماح {{قَالُوا ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}} [يوسف: 97] .
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض؛ فحين اتفقوا على التفريق بين يوسف وأبيه، ورأى أكثرهم أن القتل يحصل به الإبعاد الأبدي، {{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}} [يوسف: 10] ، فخفف به الشر عنهم، ولهذا لما وردت السيارة الماء وأدلى واردهم دلوه تبشر بوجوده، وقال:
{{هَذَا غُلاَمٌ}} [يوسف: 19] ، وكان إخوته حوله فقالوا: إنه غلام آبق منّا وتبايعوه معهم {{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}} [يوسف: 20] . وإنما قصدهم إبعاده والتأكيد على مشتريه منهم صورة أن يحتفظ به لئلا يهرب، ومن لطف الله أن الذي أخذه وباعه([14])في مصر على عزيزها فحين رآه رغب فيه جداً
وأحبه، وقال لامرأته: {{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}} [يوسف: 21] ، فبقي مكرماً عندهم معفى من الأعمال الشاقة وغيرها متجرداً للخير، وهذا من اللطف بيوسف، ولهذا قال: {{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}} [يوسف: 21] ، فكان تفرغه عند العزيز من أسباب تعلمه للعلوم النافعة ليكون أساساً لما بعده من الرفعة في الدنيا والآخرة، كما أن رؤياه مقدمة اللطف، وكما أن الله أوحى إليه حين ألقاه إخوته في الجب {{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}} [يوسف: 15] .
وهذه بشارة له بالنجاة مما هو فيه، وإنه سيصل إلى أن ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون، وقد وقع ذلك في قوله: {{هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}} إلى آخر الآيات، وألطاف المولى لا تخطر على البال.
ومنها: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية لا بنقص البداية، وذلك لأن إخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم، لكن في آخر أمرهم ونهايته تابوا إلى الله وطلبوا السماح من أخيهم يوسف ومن والديهم([15])الاستغفار فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل، فعفى الله عنهم وأوصلهم إلى الكمال اللائق بهم.
قيل: إن الله جعلهم أنبياء؛ كما قاله غير واحد من المفسرين في تفسير الأسباط إنهم إخوة يوسف الاثنا([16])عشرة([17])، وقيل: بل كانوا قوماً صالحين كما قاله آخرون، وهو الظاهر، لأن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل، وهو اسم لعموم القبيلة لاَ لأَِوْلاَدِ يعقوب الاثني عشر منهم، فهم آباءَ الأسباط وهم من الأسباط، ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في إشراقها وعلوها وهذه صفة أهل العلم والإيمان، والله أعلم.
ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين، وقد تفسر بالملوك والمناسبة ظاهرة.
ومنها: تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب الصبر، الصبر الاضطراري: وهو صبر على أذية إخوته، وما ترتب عليها من بُعْدِه عن أبويه، وصبره في السجن بضع سنين. والصبر الاختياري: هو صبر على مراودة سيدته امرأة العزيز مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها، وكونها هي التي راودته عن نفسه وغلقت الأبواب، وهو في غاية ريعان الشباب، وليس عنده من قرابته ومعارفه الأصليين أحد.
ومع هذه الأمور ومع قوة الشهوة منعه الإيمان([18])الصادق والإخلاص الكامل من مواقعة المحذور، وهذا هو المراد بقوله: {{لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}} [يوسف: 24] ، فهو برهان الإيمان الذي يغلب جميع القوى النفسية، فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاَ ظل إلا ظله، وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ([19]).
ثم بعد ذلك راودته المرأة وراودته، واستعانت بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن، فلم تحدثه نفسه ولم يزل الإيمان ملازماً له في أحواله، حتى قال بعد ما توعدته بقولها: {{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}} [يوسف: 32، 33] ، فاختار السجن على مواقعة المحظور، ومع ذلك فلم يتكل على نفسه بل استغاث بربه أن يصرف عنه شرهن، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
وكما أنه كمل مراتب الصبر فقد كمل مراتب العدل والإحسان للرعية حين تولى خزائن البلاد المصرية، وكمل مراتب العفو والكرم حين قال له إخوته: {{تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}} [يوسف: 91، 92] ، فارتقى صلّى الله عليه وسلّم إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال، ونشر الله له الثنائين الكاملين في العالمين.
يتبع ..........
        اسم الموضوع : فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام
            |
        المصدر : .: حلقات تحفيظ القرآن :.