التحطيم: مهارة رائدة في تاريخ شبابنا إلا من رحم ربي !
لم أحظَ بعد تفكيري الدؤوب في البحث عن علاج مستأصل لهذا المرض العضال سوى محاولات بائسة، وصُبابة من أملٍ تفرّست أنها تُرجع إليّ الابتسامة بعد اندثارها من ثغري منذ أمد.
هنا أتحدث عن نفسي، وجملة ما أذكره واردة في أخيلة الأفاضل والفضليات ممّن عانوا مثلي؛ غير أنهم لا يجدون من الكلمات ما يترجمون به عن أساهم وحرقتهم، فيبقى ما أُضمر في مكنونات أفئدتهم كما كان لا يتبدّل، ولا يجدون مسلكاً للبوح وإن ركبوا الصّعاب!
درجتُ ـ أولَ ما سلكتُ طريق الطلب ـ على الاستئناس بآراء من يكبرني سنّا، ويفوقني خبرة ولو بيوم واحد، فما من عمل أعمله، أو محاولة كتابيّة أقوم بها؛ إلا وأَعْرِض ذلك على خبير محنّك، أو أديب ضليع في نظري القاصر، أجرّ خطاي إلى منـزله، وربّما إلى مكان عمله، وكلّي ممتلئ فرحاً ونشوة لعلّي أسمع منه كلمة تشجيعية تمدّني بدَفْعة من الحماس، وتفتح عليّ بوابةً من الأمل؛ لأمضي في دربي بنجاح واعتزاز، لكن الذي حدث لي في الغالب: أنّني كلما أدليتُ بما أفرزه لُعابُ مدادي؛ أجد ممن أملت فيه الخير: إشادة مضطربة، ممزوجة بتأنيبات عارمة! والسبب: أنّني كتبت وأنتجت!
موقف:
لا زلت أذكر أحد الأيام وأنا أحاول نظم بيت ببراءةٍ وأملٍ لانهائيّ؛ موقفَ الأخ الذي انهال عليّ بمحاضرته العجيبة، والتي لن أنساها ما حييت، إذ وشّاها بكلماته التحطيمية ما قَدِرَ، بعد أن انتقاها ببراعةٍ من أقوى قواميس التثبيط الأُمَميّة، حتى ظننته سلب زهرة حياتي، ودفن شهوتي للعلم والمعرفة والإبداع دون نشور أو إياب، فأطرقت أمامه طويلاً إطراقةَ المحرومِ المهضومِ حقُه، تعتصرُني الآلام، وتتقاذفني أمواج الحزن يمنة ويسرة، حتى كدت أنسى نفسي وسط جعجعة هذا المثبّط، فقمت من مجلسه ورجعت هائماً على وجهي لا أدري ماذا أفعل!
ومرّت الأيام كالسّحاب، وما هي إلا شهور معدودات حتّى وفّقني الباري ـ بلطفه ـ لأظفر بأستاذٍ آخر شاعر مجيد، من طراز فريد، لم يسبق لي أن رأيت مثله، فاحتضنني بعد أن لفظني الأول، ولملمَ شتات همومي بعد تفنُّن ذاك في تكثيفها وتمطيطها، فأزال ما عَلِق بقلبي من أثِر حديث الأوّلِ، وأعانني على أمري، رغم تكبّر ذاك وتعالمه، فأدركت ـ بعدئذٍ ـ سرّ التمزق والالتئام، وفلسفة الإشادة والإهانة.
وأُبْت إلى مخدعي تلك الليلة وعينيّ تسحّان بدموع الفرح، ولم يذق جفني الكرى حتى وجدتني ماسكاً ريشتي الأدبية، إذْ أبَتْ إلاّ أن ترسم ما دار في خلَدي ذلك اليوم في لوحة نثرية صادقة، وكنت ـ إذ ذاك ـ في بواكير الشباب وشرخ المراهقة، وقد كان مما أوحت القريحة إلى الريشة وألهَمَتْه، فرَسَمَتْ بدَوْرها:
(كم تمنّيت ـ والله ـ أخاً عزيزاً يحنو عليّ، ويتفقد شأني، ويفرح لفرحي، ويجزع لجزعي، يشدّ عضدي، ويقف في مِحَني، يواسيني بكلمة أو كلمتين، ليس همّه إلا رؤيتي ناجحاً أشقّ عباب التفوق، وأكشف حجاب الإبداع، يغتبط بما أنجزه، يشيد بعطائي بين أقراني، لا أريده أن يكسوَني حلل الإطراء بالمداهنة، بل رغبة في تقدّمي وتشجيعاً، والحمد لله أن أرشدني إليه بعد ضياع، وهداني إليه إبّان مسغبتي العاطفية.
فاللهم لك الحمد كله على آلائك الوفيرة ومننك الغزيرة.
عبدكم المقصّر... 1425هـ).
فبعدها انطلقت بعزم، وتوثّبت لتحقيق النجاح بعد الاستعانة بربّ الأرباب، وما زلت في هذا الطريق سائراً والحمد لله، وأسأله الإعانة والتوفيق.
فيا أيها الكَتَبَةُ المبدعون/
التحطيم والتثبيط وما اشتقّ منهما، لاحِقٌ بكل أحد منّا، ولكن المحكّ في الإصرار على تجاهل المفردات هذه، ومحاولةِ طمسها من أفئدتكم وأذهانكم، فبعدها سترون النجاح عاجلاً أو آجلاً كأسراب القطا يلوح في الأفق، وستنبهرون ـ فرحين ـ بمنظره الأخّاذ!!
(أبو فِهْر)
17/ 5/ 1430هـ
التعديل الأخير:
اسم الموضوع : فلسفة التحطيم: مهارة رائدة في تاريخ شبابنا (وتجربة أبي فهر)
|
المصدر : .: روائع المنتدى :.

